أين الخبرات في القطاع العام؟

سلامة الدرعاوي

كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن غياب مدير أصيل لدائرة الأراضي والمساحة منذ ما يقارب خمس سنوات، ممّا دفع رئيس الوزراء شخصيّاً لتكليف مدير دائرة ضريبة الدخل والمبيعات حسام أبو علي بتولّي مهامّ الدائرة إلى حين اختيار مدير أصيل لها.

اضافة اعلان


التكليف يعني بحدّ ذاته أنّ الحكومة لم تجد حتّى الآن من يستحقّ أن يتولّى هذا المنصب وفق أسس الكفاءة والجدارة، حيث لم ينجح أحد في اختبارات التعيين الّتي أجرتها الحكومة لهذا المنصب، وبعضهم رسب في الاختبار ثلاث مرّات متتالية وهو قائم بأعمال المدير مع كلّ أسف. 


تكليف أبو علي بحدّ ذاته رسالة بأنّ الحكومة لن تعيّن أيّ شخص في هذا المنصب إلّا إذا استحقّه بجدارة، ولن تكون هناك صفقات مع أحد لتعيين شخص بالواسطة أو المحسوبيّة، ولو أرادت فعل ذلك لملأت الشاغر منذ سنين.


تكليف أبو علي، الّذي لا يتقاضى مكافأة أو راتباً نظير هذا التكليف إلى حين تعيين الشخص المناسب، هو دلالة أنّ دائرة الأراضي بحاجة لجراحات هيكليّة عميقة مشابهة للتجربة الناجحة الّتي تحقّقت في مديريّة ضريبة الدخل والمبيعات، والّتي تحوّلت من دائرة كان يشوبها الفساد والتهرّب وغيرها من الاختلالات على مدى عقود، لتصبح نموذجاً للإدارة الرشيدة والحصيفة والداعمة للاقتصاد والخزينة وتطبيق سيادة القانون بفضل النهضة الإداريّة الّتي جعلت منها على هذا المستوى المتميّز داخليّاً وخارجيّاً في آن واحد، لتثبت للجميع أنّ الإصلاح الإداريّ هو الأساس في الإصلاح الاقتصاديّ، ولا يوجد شيء مستحيل طالما صلحت الإدارات العليا. 


نموذج حسام أبو علي نموذج يستحقّ التقدير والإشادة، لكن لا شكّ في أنّ هذا قد لا يعجب بعض الفئات من المجتمع الّتي تهاجمه وتقلّل من دوره بين الفترة والأخرى لمصالح باتت معلومة للجميع، باعتبار لا سند اجتماعيّ وسياسي واقتصادي يتحامى به، وبالتّالي يمكن أن يتمّ إسقاط أحد الأقارب أو المحاسيب بالبراشوت على منصبه، لكنّ عمله ونجاحه وثباته في تطبيق القانون وروحه جعلت الحكومة وبرئيسها ووزير ماليّتها يدركون أهمّيّة هذا الشخص وتجربته وحمايته من كلّ أشكال التغوّل والهجوم عليه، بل ودعمه بكلّ ما يستحقّ لإنجاح مهامّه بالشكل المطلوب.


لكن في الحقيقة السؤال الّذي يطرح حول غياب الكفاءات الأردنيّة لملء هذا الشاغر مشروع ويستحقّ البحث.


نعم، من الصعوبة بمكان تعيين مدير للأراضي، فالمسألة في غاية الصعوبة، فالكفاءات مفقودة في هذا القطاع مع كلّ أسف، مثلها مثل غيرها من المستويات الإداريّة في كلّ الوزارات الّتي تشهد تراجعاً ملحوظاً في مؤسّساتها الإداريّة نتيجة غياب الكفاءات وأصحاب الخبرات.


 لا يوجد وزير أو مدير دائرة إلّا ويشتكي نقص الخبرات، والمناصب الشاغرة كثيرة، لكن إذا أرادت الحكومة التعيين عن طريق الجدارة، فليس هناك أحد للأسف من داخل جهاز القطاع العامّ إلّا ما ندر.


هذه الحالة المزرية الّتي وصلت إليها الإدارة العامّة في القطاع العامّ هي نتيجة طبيعيّة لحالات العبث الرسميّ في وزارات الدولة ومؤسّساتها المختلفة منذ سنين طويلة، والّتي كانت تتلخّص بشكل محدّد بصفقات حكوميّة نيابيّة في سنوات خلت، أدّت إلى تعيين عشرات الآلاف من الموظّفين بواسطة البراشوت، بعيداً عن أسس الجدارة والكفاءة، والّذين باتوا اليوم يمسكون بمفاصل الإدارة العليا، ويتحكّمون في قرارها التنفيذيّ، هؤلاء مرجعيّتهم ليست القوانين والأنظمة، بل مرجعيّتهم من قام بتعيينهم بالواسطة، لذلك فإنّهم لا يهتمّون بأيّ عمليّات تقييم لأعمالهم أو محاسبتهم، فهم محصّنون من المساءلة.


للأسف لا يوجد صفّ ثان في القطاع العامّ، فالغالبيّة منهم هجرت قسراً بعد الخطّة الهيكليّة الّتي قامت بها الحكومة في سنة 2012، والّتي أفرغت القطاع العامّ من الكفاءات بحجّة إلغاء التمايز في الرواتب، لتأتي حكومة أخرى في عام 2020-2021 بإصدار قرار بإحالة كلّ من لديه خبرة تصل إلى 30 عاماً للتقاعد، بذلك تقضي على كلّ أشكال الكفاءات والخبرات في مؤسّسات الدولة، والاعتماد على موظّفين بلا خبرات، وغالبيّتهم معيّنون بالواسطات.


الإصلاح الإداريّ لا يمكن أن ينجح في القطاع العامّ إلّا من خلال تعزيز سيادة القانون والمحاسبة والمساءلة لكلّ مقصّر مع تقديم الحوافز والدعم لكلّ مجتهد.

وينبغي أيضاً إطلاق برامج تدريب هي ركيزة أساسيّة في الإصلاح الإداريّ، لضمان تمكين زمام القطاع العامّ من خلق عشرات إن لم يكن مئات مثل حسام أبو علي في الضريبة.

 

للمزيد من مقالات الكاتب اانقر هنا