‏إمبراطورية ما بعد الإمبريالية‏: كيف تحول الحرب الأوكرانية أوروبا‏ (2-1)

1685270052197566400
تطورات الحرب الأوكرانية تغير طبيعة الاتحاد الأوروبي - (المصدر)

‏‏تيموثي غارتون آش‏* - (فورين أفيرز) 18/5/2023


توقف توسع الاتحاد الأوروبي فترة من الوقت، ليس بسبب المقاومة الروسية لهذا التوسع، وإنما بسبب "إجهاد التوسع" بعد قبول أعضاء جدد من وسط وشرق أوروبا في العامين 2004 و2007، إلى جانب تأثير التحديات الرئيسية الأخرى التي يواجهها الاتحاد الأوروبي.

اضافة اعلان

 

فقد تحولت الأزمة المالية العالمية للعام 2008 منذ العام 2010 فصاعدا إلى أزمة طويلة الأمد في منطقة اليورو، تلتها أزمة اللاجئين في 2015-2016، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وانتخاب الرئيس الأميركي ‏‏دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة‏‏ في العام 2016، وصعود الحركات الشعبوية المناهضة لليبرالية في بلدان مثل فرنسا وإيطاليا، وتفشي جائحة "كوفيد-19".

 

وانزلقت كرواتيا إلى عضوية الاتحاد الأوروبي في العام 2013، لكن مقدونيا الشمالية، التي تم قبولها كدولة مرشحة في العام 2005، ما تزال تنتظر العضوية حتى اليوم.
*   *   *
التاريخ يحب العواقب غير المقصودة. وينطوي المثال الأخير على مفارقة بشكل خاص: لقد فتحت محاولة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، استعادة الإمبراطورية الروسية من خلال إعادة استعمار أوكرانيا الباب أمام قدوم أوروبا ما- بعد- إمبريالية.

 

بمعنى أوروبا لا تعود فيها أي إمبراطوريات يهيمن عليها شعب واحد أو أمة واحدة، سواء على اليابسة أو عبر البحار -وهو وضع لم تشهده القارة من قبل.‏


‏مع ذلك، من المفارقات أنه لتأمين مستقبل ما بعد الإمبريالية هذا والوقوف في وجه العدوان الروسي، يجب على الاتحاد الأوروبي نفسه أن يتسم ببعض خصائص الإمبراطورية. لا بد أن يتمتع بدرجة كافية من الوحدة، والسلطة المركزية، وعملية صنع القرار الفعالة، من أجل الدفاع عن المصالح والقيم المشتركة للأوروبيين.

 

وإذا كان لكل دولة عضو حق النقض (الفيتو) على القرارات الحيوية، فسوف يتعثر الاتحاد، داخليا وخارجيا على حد سواء.‏


‏ليس الأوروبيون معتادين على النظر إلى أنفسهم من خلال عدسة الإمبراطورية، لكن قيامهم بذلك يمكن أن يَعرض منظورا مضيئا ومقلقا. في الحقيقة، لدى الاتحاد الأوروبي نفسه ماض استعماري.

 

وكما وثق العالمان السويديان بيو هانسن Peo Hansen وستيفان جونسون Stefan Jonsson، فإن المهندرسن الأصليين في خمسينيات القرن العشرين لما سيصبح في نهاية المطاف الاتحاد الأوروبي، اعتبروا المستعمرات الأفريقية للدول الأعضاء جزءا لا يتجزأ من المشروع الأوروبي.

 

وحتى عندما خاضت الدول الأوروبية حروبا وحشية في كثير من الأحيان للدفاع عن مستعمراتها، تحدث المسؤولون بمكر عن "أورأفريكا"، وتعاملوا مع ممتلكات دول مثل فرنسا في الخارج باعتبارها تنتمي إلى الجماعة الاقتصادية الأوروبية الجديدة. وقاتلت البرتغال للاحتفاظ بالسيطرة على أنغولا وموزمبيق حتى أوائل سبعينيات القرن العشرين.‏


‏بل إن عدسة الإمبراطورية ستكون أكثر وضوحا عندما ينظر المرء من خلالها إلى الجزء الكبير من أوروبا الذي كان، خلال ‏‏الحرب الباردة‏‏، قابعا وراء الستار الحديدي تحت الحكم الشيوعي السوفياتي أو اليوغوسلافي.

 

كان ‏‏الاتحاد السوفياتي‏‏ استمرارا للإمبراطورية الروسية، حتى على الرغم من أن العديد من قادته لم يكونوا من أصل روسي. وخلال وبعد الحرب العالمية الثانية، ضم دولا وأقاليم (بما فيها دول البلطيق وغرب أوكرانيا) التي لم تكن جزءا من الاتحاد السوفياتي قبل العام 1939.

 

وفي الوقت نفسه، وسع الاتحاد السوفياتي إمبراطوريته الفعلية إلى وسط أوروبا، بما في ذلك الكثير مما كان يُعرف تاريخيا باسم ألمانيا الوسطى، التي أعيد تشكيلها باسم ألمانيا الشرقية.


بعبارات أخرى، كانت هناك إمبراطورية روسية داخلية وخارجية. وكان المفتاح لفهم كل من أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي في ثمانينيات القرن العشرين هو إدراك أن هذه كانت في الحقيقة إمبراطورية فعلية -وإمبراطورية في اضمحلال.

 

تبع ذلك إنهاء استعمار الإمبراطورية الخارجية بطريقة سريعة وسلمية بشكل فريد في العامين 1989 و1990، ثم بعد ذلك، وفي ما كان أكثر إدهاشا، جاء تفكك الإمبراطورية الداخلية في العام 1991.

 

وكان ذلك التفكك مدفوعا، كما هو الحال في كثير من الأحيان، بالفوضى التي ضربت المركز الإمبراطوري. وبطريقة تجاوزت المعتاد، جاءت الضربة القاضية من الأمة الإمبريالية الأساسية نفسها: روسيا. ومع ذلك، تجهد روسيا اليوم ‏‏لاستعادة السيطرة‏‏ على بعض الأراضي التي تخلت عنها، متقحمة نحو الحدود الشرقية الجديدة للغرب.‏

 

أشباح الإمبراطوريات الماضية‏


‏لا بد أن يكون كل مَن درس تاريخ الإمبراطوريات قد عرف أن انهيار الاتحاد السوفياتي لن يكون نهاية القصة. إن الإمبراطوريات لا تستسلم عادة من دون صراع، كما أظهر البريطانيون والفرنسيون والبرتغاليون و"الأورأفريقيون" بعد العام 1945.

 

وفي زاوية واحدة صغيرة، ردت الإمبراطورية الروسية بسرعة إلى حد ما. في العام 1992، استخدم الجنرال ألكسندر ليبيد لواء الحرس المسلح الروسي 14 لإنهاء الحرب بين الانفصاليين من منطقة دولة مولدوفا المستقلة حديثا التي تقع شرق نهر دنيستر والقوات المولدوفية الشرعية.

 

وكانت النتيجة هي ما لا تزال شبه دولة ترانسنيستريا غير القانونية في الطرف الشرقي من مولدوفا، الواقعة في مكان حرج على الحدود مع أوكرانيا.

 

وفي تسعينيات القرن العشرين، خاضت روسيا أيضا حربين وحشيتين للاحتفاظ بالسيطرة على ‏‏الشيشان‏‏، ودعمت بنشاط الانفصاليين في مناطق أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية في جورجيا.‏


‏مع ذلك، وبينما سعت موسكو إلى استعادة بعض أراضيها الاستعمارية المفقودة، كان الاتحاد الأوروبي منشغلا بمتطلبين لاستكمال انتقال أوروبا المتميز في ذاته في القرن العشرين من إمبراطوريات إلى دول.

 

وأدى التفكك العنيف ‏‏ليوغوسلافيا‏‏ والطلاق السلمي للأجزاء التشيكية والسلوفاكية من تشيكوسلوفاكيا إلى توجيه انتباه متجدد إلى إرثي الإمبراطوريتين، العثمانية والنمساوية-المجرية، على التوالي، اللتين تم تفكيكهما رسميا في نهاية الحرب العالمية الأولى.

 

ولكن، لم يكن ثمة شيء حتمي بشأن تفكك تشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا. لا يتعين على الدول متعددة القوميات الما- بعد- إمبريالية أن تتفكك إلى دول قومية، ولن يكون ذلك بالضرورة أفضل خيار للناس الذين يعيشون هناك إذا فعلت.

 

ومع ذلك، يتبين من الملاحظة التجريبية أن هذه هي الطريق التي يميل التاريخ الأوروبي الحديث إلى سلوكها. ومن هنا جاء خليط اليوم المعقد والمجمّع كيفما اتفق من 24 دولة مفردة في أوروبا شرق ما كان يعرف بـ"الستار الحديدي"، (وشمال اليونان وتركيا)، بينما كانت هناك في العام 1989 تسع دول فقط.‏


بدأ رد فعل روسيا النيو-كولنيالي الأكبر بإعلان ‏‏بوتين‏‏ عن مسار للمواجهة مع الغرب في مؤتمر ميونخ للأمن في العام 2007، حيث ندد بالنظام أحادي القطب الذي تقوده الولايات المتحدة. وأعقب ذلك استيلاؤه المسلح على أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية من جورجيا في العام 2008.

 

وتصاعد هذا الاتجاه مع ‏‏ضم شبه جزيرة القرم‏‏ وغزو شرق أوكرانيا في العام 2014، ليبدأ ذلك الضم حربا روسية أوكرانية ما تزال مستمرة، كما يذكِّر الأوكرانيون الغرب مرارا وتكرارا، منذ تسعة أعوام.

 

وباقتباس العبارة المعبرة للمؤرخ أ. ج. ب. تايلور، كان العام 2014 نقطة التحول التي فشل الغرب في الاستدارة عندها. ولا يمكن أن يعرف المرء أبدا ما كان يمكن أن يحدث لو أن رد فعل الغرب كان أكثر صرامة في ذلك الوقت، من خلال تقليل اعتماده على روسيا في مجال الطاقة، ووقف تدفق الأموال الروسية القذرة التي تدور في أنحاء الغرب، وتزويد أوكرانيا بالمزيد من الأسلحة، وتوجيه رسالة أكثر قوة إلى موسكو.

 

ولكن، ثمة بعض الشك الذي يتبقى حول ما إذا كان مثل هذا المسار سيضع كلا من أوكرانيا والغرب في وضع مختلف وأفضل في العام 2022.‏


‏وحتى بينما قاومت روسيا، تعثر الغرب. كان العام 2008 قد شهد بداية توقف مؤقت في قصة رائعة استمرت 35 عاما من توسع الغرب الجيوسياسي. وفي العام 1972، كانت المجموعة الاقتصادية الأوروبية، سلف الاتحاد الأوروبي، تضم ستة أعضاء فقط، وكان لدى ‏‏حلف شمال الأطلسي‏‏ 15 دولة عضوا فقط. ولكن بحلول العام 2008، كان الاتحاد الأوروبي يضم 27 دولة عضوا، وكانت لدى حلف شمال الأطلسي 26 دولة.

 

وامتدت أراضي المنظمتين إلى عمق أوروبا الوسطى والشرقية، بما في ذلك دول البلطيق التي كانت جزءا من الإمبراطورية الداخلية السوفياتية الروسية حتى العام 1991. وعلى الرغم من أن بوتين قبل على مضض هذا التوسع المزدوج للغرب، إلا أنه كان يخشاه ويستاء منه على نحو متزايد.‏


‏في قمة حلف شمال الأطلسي التي التأمت في نيسان (أبريل) 2008 في بوخارست، أرادت إدارة الرئيس الأميركي حينذاك، ‏‏جورج دبليو بوش‏،‏ بدء استعدادات جادة لضم جورجيا وأوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، لكن الدول الأوروبية الرائدة، بما فيها فرنسا -وخاصة ألمانيا- عارضت بحزم هذا التوجه.

 

وكحل وسط، أعلن البيان الختامي للقمة أن جورجيا وأوكرانيا "ستصبحان عضوتين في حلف شمال الأطلسي في المستقبل"، ولكن من دون تحديد خطوات ملموسة لتحقيق ذلك.

 

وكان هذا أسوأ ما في العالمين حقا؛ فقد زاد من شعور بوتين بالتهديد الذي تقوده الولايات المتحدة ضد بقايا الإمبراطورية الروسية من دون ضمان أمن أوكرانيا أو جورجيا.

 

ودخلت دبابات بوتين إلى أبخازيا ‏‏وأوسيتيا الجنوبية‏‏ بعد أربعة أشهر من ذلك الإعلان فقط. واستوعبت توسيعات الناتو اللاحقة دول جنوب شرق أوروبا الصغيرة، ألبانيا وكرواتيا والجبل الأسود ومقدونيا الشمالية، مما جعل إجمالي أعضاء الناتو اليوم 30 عضوا، لكن هذه الإضافات بالكاد غيرت ميزان القوى في أوروبا الشرقية.‏


‏في الوقت نفسه، توقف توسع الاتحاد الأوروبي، ليس بسبب المقاومة الروسية، وإنما بسبب "إجهاد التوسع" بعد قبول أعضاء جدد من وسط وشرق أوروبا في العامين 2004 و2007، إلى جانب تأثير التحديات الرئيسية الأخرى التي يواجهها الاتحاد الأوروبي.

 

إمبراطورية ما بعد الإمبريالية: كيف تحول الحرب الأوكرانية أوروبا؟ (2-2)

 

فقد تحولت الأزمة المالية العالمية للعام 2008 منذ العام 2010 فصاعدا إلى أزمة طويلة الأمد في منطقة اليورو، تلتها أزمة اللاجئين في 2015-2016، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وانتخاب الرئيس الأميركي ‏‏دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة‏‏ في العام 2016، وصعود الحركات الشعبوية المناهضة لليبرالية في بلدان مثل فرنسا وإيطاليا، وتفشي جائحة "كوفيد-19". وانزلقت كرواتيا إلى عضوية الاتحاد الأوروبي في العام 2013، لكن مقدونيا الشمالية، التي تم قبولها كدولة مرشحة في العام 2005، ما تزال تنتظر العضوية حتى اليوم.

 

ولا يذكرنا النهج الذي تبناه الاتحاد الأوروبي في التعامل مع غرب البلقان على مدى العقدين الماضيين بشيء بقدر ما يذكرنا بالرسم الكاريكاتوري الذي نشرته مجلة "‏‏نيويوركر"‏‏ لرجل أعمال يقول لمتصل غير مرحب به على الهاتف: "ماذا عن ’لن يحدث هذا أبدا‘؟ هل ’لن يحدث هذا‘ مناسبة لك؟‏".


أوروبا متحدة وحرة‏


 

في ما جسد مرة أخرى حقيقة قول هيراقليطس بأن "الحرب هي والد الجميع"، رفعت أكبر حرب في أوروبا منذ العام 1945 الحواجز أمام العمليتين، فاتحة الطريق أمام توسع كبير إضافي ومتتابع للغرب باتجاه الشرق. في أواخر شباط (فبراير) 2022، عشية الغزو الروسي واسع النطاق لأوكرانيا، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ما يزال يعرب عن تحفظاته بشأن توسيع الاتحاد الأوروبي ليشمل غرب ‏‏البلقان‏‏. وأيد المستشار الألماني، أولاف شولتس، التوسيع ليشمل غرب البلقان، لكنه أراد رسم الخط هناك.

 

ثم، عندما قاومت أوكرانيا بشجاعة وبشكل غير متوقع محاولة روسيا الاستيلاء على البلاد بأكملها، وضع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الاتحاد الأوروبي على المحك وأمام اختيار صعب.

 

لقد تطور الرأي الأوكراني على مدى العقود الثلاثة الماضية، من خلال الأحداث المحفزة لـ"الثورة البرتقالية" في العام 2004 واحتجاجات "الميدان الأوروبي" في العام 2014، وأظهرت رئاسته بالفعل توجها أوروبيا قويا. وبناء على ذلك، طلب زيلينسكي من الغرب مرة تلو المرة -ليس الأسلحة والعقوبات فحسب، وإنما منح عضوية الاتحاد الأوروبي لبلده أيضا. ومن الجدير بالملاحظة أن هذا الطموح طويل الأجل كان ينبغي أن يكون من بين المطالب الثلاثة الأولى من بلد كان يواجه احتمالا وشيكا لمواجهة احتلال روسي مدمر.‏


بحلول حزيران (يونيو) 2022، كان ماكرون وشولتس يقفان مع ‏‏زيلينسكي‏‏ في كييف، جنبا إلى جنب مع رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي (الذي كان قد أيد احتمال العضوية قبل شهر ولعب دورا بارزا في تغيير آراء زملائه القادة بهذا الصدد)، والرئيس الروماني كلاوس يوهانيس. وأعلن الزوار الأربعة أنهم يؤيدون قبول الاتحاد الأوروبي لأوكرانيا كمرشح ‏‏للعضوية‏‏.

 

وفي الشهر نفسه، أعلن الاتحاد الأوروبي هذا التوجه باعتباره موقفه الرسمي، وقبِل أيضا مولدوفا كدولة مرشحة (فيما سيكون رهنا ببعض الشروط الأولية لكلا البلدين)، وأرسل إشارة مشجعة إلى جورجيا تفيد بأن الاتحاد الأوروبي قد يمنحها الوضع نفسه في المستقبل.‏


لم يقدم الناتو أي وعد رسمي من هذا القبيل لأوكرانيا، ولكن بالنظر إلى مدى دعم الدول الأعضاء في الناتو للدفاع عن أوكرانيا -الذي رمزت إليه بشكل كبير الزيارة التي قام بها الرئيس الأميركي ‏‏جو بايدن‏‏ إلى كييف في وقت سابق من هذا العام- من الصعب الآن تخيل أن الحرب يمكن أن تنتهي من دون تقديم نوع من الالتزامات الأمنية لأوكرانيا بحكم الأمر الواقع، إن ‏‏لم‏‏ يكن بحكم القانون، من جهة الولايات المتحدة وأعضاء الناتو الآخرين.

 

وفي الوقت نفسه، دفعت الحرب السويد وفنلندا إلى الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (على الرغم من أن الاعتراضات التركية أخرت هذه العملية). كما جلبت الحرب الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي إلى شراكة يتم التعبير عنها بشكل أكثر وضوحا باعتبارهما، إذا جاز التعبير، ذراعي الغرب القويين.

 

وفي الأمد البعيد، سوف تكون عضوية جورجيا ومولدوفا وأوكرانيا في حلف شمال الأطلسي بمثابة المكمل المنطقي لعضوية الاتحاد الأوروبي والضمان الدائم الوحيد لهذه البلدان في وجه تجدد النزعة الانتقامية الروسية.

 

وفي حديثه في الاجتماع السنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي هذا العام في دافوس، أيد وزير الخارجية الأميركي السابق، هنري كيسنجر، هذا المنظور، مشيرا إلى أن الحرب التي كان من المفترض أن يمنع نشوبها حياد أوكرانيا من خارج حلف شمال الأطلسي قد اندلعت بالفعل.

 

وفي مؤتمر ميونخ للأمن الذي عُقد في شباط (فبراير)، أيد العديد من القادة الغربيين صراحة عضوية أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي.‏‏


إن مشروع ضم بقية أوروبا الشرقية، باستثناء روسيا، إلى المنظمتين الرئيسيتين في الغرب الجيوسياسي هو عمل سيتطلب تنفيذه سنوات عديدة. وقد استغرق التوسع المزدوج الأول للغرب نحو الشرق حوالي 17 عاما، إذا احتسبنا الزمن من كانون الثاني (يناير) 1990 إلى كانون الثاني (يناير) 2007، عندما انضمت بلغاريا ورومانيا إلى الاتحاد الأوروبي.

 

ومن بين العديد من الصعوبات الواضحة أن القوات الروسية تحتل حاليا أجزاء من جورجيا ومولدوفا وأوكرانيا. وبالنسبة للاتحاد الأوروبي، هناك سابقة لقبول دولة لديها مناطق لا تسيطر عليها حكومتها الشرعية: هناك جزء من قبرص، وهي دولة عضو، تسيطر عليه تركيا فعليا. ولكن لا توجد سابقة من هذا القبيل بالنسبة ‏‏لحلف شمال الأطلسي‏‏.

 

من الناحية المثالية، سوف تتم الجولات المستقبلية من توسيع حلف الناتو في سياق حوار أكبر مع روسيا حول الأمن الأوروبي، كما حدث في الواقع خلال جولات توسع الناتو شرقا في العامين 1999 و2004، حتى أن الجولة الأخيرة ضمنت موافقة بوتن على التوسيع، ولو على مضض. ولكن من الصعب تخيل حدوث ذلك مرة أخرى ما لم يكن هناك زعيم مختلف تماما في الكرملين.‏


‏قد يستغرق الأمر حتى العام 2030 لتحقيق هذا التوسع المزدوج، ولكن إذا حدث ذلك، فسوف يمثل خطوة عملاقة أخرى نحو تحقيق الهدف الذي حدده الرئيس الأميركي ‏‏جورج بوش الأب‏‏ في العام 1989: أوروبا كاملة موحدة وحرة.

 

ولا تنتهي أوروبا عند أي خطوط واضحة -على الرغم من أنها تنتهي عند نقطة ما في القطب الشمالي- ولكنها تتلاشى فقط عبر أوراسيا، وعبر البحر الأبيض المتوسط، وبمعنى ما، حتى عبر المحيط الأطلسي. (سوف تكون كندا عضوا مثاليا في الاتحاد الأوروبي).

 

ولكن مع اكتمال هذا التوسع شرقا، سيتم تجميع المزيد من أوروبا الجغرافية والتاريخية والثقافية أكثر من أي وقت مضى في مجموعة واحدة مترابطة ومتعالقة داخليا من المجتمعات السياسية والاقتصادية والأمنية.‏


‏وفيما هو أبعد من ذلك، ثمة مسألة بيلاروسيا الديمقراطية في مرحلة ما بعد ‏‏لوكاشينكو،‏‏ إذا كان بإمكانها تحرير نفسها من قبضة روسيا. وهناك مرحلة أخرى، من المحتمل أيضا أن تشمل أرمينيا وأذربيجان وتركيا (تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي منذ العام 1952 ومرشحة مقبولة لعضوية الاتحاد الأوروبي منذ العام 1999)، قد تسهم في نهاية المطاف في تعزيز جيوستراتيجيا للغرب في عالم يصبح ما- بعد- غربي على نحو متزايد. لكن الحجم الهائل للمهمة التي اضطلع بها الاتحاد الأوروبي للتو، مقترنا بالظروف السياسية داخل تلك البلدان، يجعل هذا الاحتمال غير مدرج على الأجندة الحالية للسياسة الأوروبية.‏ (يُتبع)

*تيموثي غارتون آش Timothy Garton Ash: أستاذ الدراسات الأوروبية في جامعة أكسفورد وزميل أول في معهد هوفر في جامعة ستانفورد. يعتمد هذا المقال على التحليل الوارد في كتابه المقبل "‏‏الأوطان: تاريخ شخصي لأوروبا"Homelands: A Personal History of Europe ‏‏(مطبعة جامعة ييل، 2023).‏


*نشر هذا المقال تحت عنوان: Postimperial Empire: How the War in Ukraine Is Transforming Europe

 

اقرأ المزيد في ترجمات