الحرب في أوكرانيا نجمت عن استفزاز.. إدراك مهم لتحقيق السلام ‏

‏جندي أوكراني خلف مدفع يقصف موقعًا روسيًا بالقرب من باخموت، شباط (فبراير) 2023 - (المصدر)
‏جندي أوكراني خلف مدفع يقصف موقعًا روسيًا بالقرب من باخموت، شباط (فبراير) 2023 - (المصدر)

‏جيفري د. ساكس‏ - (كومون دريمز) 23/5/2023

 

بالاعتراف بأن مسألة توسيع الناتو تقع في القلب من هذه الحرب، نفهم السبب في أن الأسلحة الأميركية لن تنهي هذه الحرب، وأن الجهود الدبلوماسية وحدها هي التي يمكن أن تفعل.‏
                      *   *   *
‏في روايته "1984" كتب جورج أورويل‏‏ أن "من يسيطر على الماضي يسيطر على المستقبل؛ ومن يسيطر على الحاضر يسيطر على الماضي".

اضافة اعلان

 

وتعمل الحكومات بلا هوادة لتشويه تصورات الناس للماضي. وعندما يتعلق الأمر بالحرب في أوكرانيا، ادعت إدارة بايدن مرة تلو المرة أن حرب أوكرانيا بدأت بهجوم غير مبرر شنته روسيا على أوكرانيا في 24 شباط (فبراير) 2022.

 

وفي الواقع، كانت الولايات المتحدة هي التي استفزت هذه الحرب بطرق توقعها كبار الدبلوماسيين الأميركيين لعقود في الفترة التي سبقت الحرب، مما يعني أنه كان من الممكن تجنب هذه الحرب وأنه يجب إيقافها الآن من خلال المفاوضات. ‏

 

حرب أوكرانيا: عالم جديد متعدد الأقطاب آخذ في الظهور‏

 

سوف يساعدنا إدراك أن الحرب قد نجمت عن استفزاز والاعتراف بذلك على فهم كيفية وقفها. إنه لا يبرر الغزو الروسي.

 

ربما كان النهج الأفضل بكثير بالنسبة لروسيا هو تكثيف الدبلوماسية مع أوروبا ومع العالم غير الغربي لشرح ومعارضة النزعة العسكرية والأحادية الأميركية.

 

في واقع الأمر، تلاقي الجهود الأميركية التي لا تهدأ لتوسيع حلف شمال الأطلسي معارضة واسعة النطاق في جميع أنحاء العالم. ولذلك، كان يغلب أن تكون الدبلوماسية الروسية بدلاً من الحرب فعالة.


يستخدم فريق بايدن عبارة "غير مبررة" باستمرار لوصف الحرب الروسية، وكان آخر ذلك في ‏‏خطاب‏‏ بايدن الرئيسي الذي ألقاه في الذكرى السنوية الأولى للحرب، وكذلك في بيان حديث ‏‏لحلف الناتو‏‏، وفي أحدث ‏‏بيان لمجموعة الدول السبع الكبار.‏‏ وتُردد وسائل الإعلام الرئيسية الصديقة لبايدن ببساطة مقولات البيت الأبيض مثل ببغاء.

 

وتشكل صحيفة‏‏ "نيويورك‏‏ تايمز" قائد الجوقة الرئيسي، حيث وصفت الغزو بأنه "غير مبرر" ما لا يقل عن 26 مرة؛ في خمس افتتاحيات، و14 عمود رأي لكتاب الصحيفة، و7 مقالات لضيوف! ‏


كان هناك في الواقع استفزازان أميركيان رئيسيان دفعا إلى نشوب الحرب. الأول هو نية الولايات المتحدة توسيع الناتو ليشمل أوكرانيا وجورجيا من أجل تطويق روسيا في منطقة البحر الأسود بدول من الناتو (أوكرانيا ورومانيا وبلغاريا وتركيا وجورجيا، بترتيب عكس اتجاه عقارب الساعة).

 

والثاني هو دور الولايات المتحدة في تنصيب نظام كاره لروسيا في أوكرانيا من خلال الإطاحة العنيفة بالرئيس الأوكراني الموالي لروسيا، فيكتور يانوكوفيتش، في شباط (فبراير) 2014.

 

وقد بدأت حرب إطلاق النار في أوكرانيا مع الإطاحة بيانوكوفيتش قبل تسع سنوات، وليس في شباط (فبراير) 2022 كما تريد منا حكومة الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي وقادة السبع الكبار أن نصدق. ‏


‏يرفض بايدن وفريقه للسياسة الخارجية مناقشة هذه الجذور لنشوب الحرب. ذلك لأن من شأن الاعتراف بهذه الجذور أن يقوض الإدارة بثلاث طرق. أولاً، سيكشف حقيقة أنه كان من الممكن تجنب الحرب، أو إيقافها مبكرًا، مما كان ليوفر على أوكرانيا دمارها الحالي وعلى الولايات المتحدة أكثر من 100 مليار دولار من النفقات حتى الآن. ثانياً، سيكشف دور الرئيس بايدن الشخصي في الحرب كمشارك في الإطاحة بيانوكوفيتش، وقبل ذلك كداعم قوي للمجمع الصناعي العسكري ومدافع مبكر جدًا عن توسيع الناتو. ثالثا، سوف يدفع بايدن إلى طاولة المفاوضات، مما يقوض دفع الإدارة المستمر لتوسيع الناتو.‏


تظهر ‏‏المحفوظات‏‏ بشكل لا يمكن دحضه أن الحكومتين، الأميركية والألمانية، وعدتا الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف مرارا بأن الناتو لن يتحرك حتى "بوصة واحدة شرقا" عندما قام الاتحاد السوفايتي بحل التحالف العسكري لحلف وارسو.

 

ومع ذلك، بدأ تخطيط الولايات المتحدة لتوسيع الناتو في وقت مبكر من تسعينيات القرن العشرين، قبل وقت طويل من أن يكون فلاديمير بوتين رئيسا لروسيا. وفي العام 1990، ‏‏حدد‏‏ خبير الأمن القومي، زبيغنيو بريجنسكي، الجدول الزمني لتوسيع الناتو بدقة لا تصدق. ‏


كان الدبلوماسيون الأميركيون وقادة أوكرانيا يعرفون جيدا أن توسيع الناتو قد يؤدي إلى حرب.

 

وقد وصف الباحث ورجل الدولة الأميركي العظيم، جورج كينان، توسيع منظمة حلف شمال الأطلسي بأنه "خطأ مصيري"، وكتب في صحيفة "‏‏نيويورك تايمز"‏‏ أنه "من المتوقع أن يؤدي مثل هذا القرار إلى تأجيج النزعات القومية والمعادية للغرب والعسكرية في الرأي العام الروسي. وأن يكون له تأثير سلبي على تطور الديمقراطية الروسية؛ وأن يساعد في إعادة أجواء الحرب الباردة إلى العلاقات بين الشرق والغرب، ودفع السياسة الخارجية الروسية في اتجاهات لن تروق لنا بالتأكيد". ‏


‏بالإضافة إلى ذلك، فكر وزير دفاع الرئيس بيل كلينتون، وليام بيري، في الاستقالة احتجاجا على توسيع الناتو.

 

وفي استدعاء لتلك اللحظة الحاسمة في منتصف تسعينيات القرن العشرين، ‏‏قال بيري ما يلي‏‏ في العام 1990: "كان أول إجراء لنا والذي وضعنا حقا في اتجاه سيئ هو عندما بدأ الناتو في التوسع، جالبا إلى عضويته دول أوروبا الشرقية، بعضها على الحدود مع روسيا. في ذلك الوقت، كنا نعمل عن كثب مع الروس وبدأوا يعتادون على فكرة أن الناتو يمكن أن يكون صديقا وليس عدوا.. لكنهم كانوا غير مرتاحين للغاية لوجود حلف شمال الأطلسي على حدودهم ووجهوا نداء قويا لنا بعدم المضي قدما في ذلك".‏


في العام 2008، أرسل السفير الأميركي في روسيا آنذاك، ومدير وكالة المخابرات المركزية الآن، ويليام بيرنز، ‏‏رسالة ‏‏إلى‏‏ واشنطن يحذر فيها بشكل مطول من المخاطر الجسيمة التي ينطوي عليها توسيع الناتو: "إن تطلعات أوكرانيا وجورجيا المتعلقة بعضوية حلف شمال الأطلسي لا تمس وترا حساسا في روسيا فحسب؛ إنها تولد مخاوف جدية بشأن العواقب على الاستقرار في المنطقة.

 

لا ترى روسيا في ذلك تطويقا وجهودا لتقويض نفوذ روسيا في المنطقة فحسب، ولكنها تخشى أيضا من عواقب لا يمكن التنبؤ بها ولا تمكن السيطرة عليها، والتي سيكون من شأنها أن تؤثر بشكل خطير على المصالح الأمنية الروسية.

 

ويخبرنا الخبراء أن روسيا قلقة بشكل خاص من أن الخلافات القوية في أوكرانيا حول عضوية الناتو، مع وقوف الكثير من أبناء المجتمع العرقي الروسي ضد العضوية، يمكن أن تؤدي إلى انقسام كبير، بما في ذلك اندلاع العنف -أو في أسوأ الأحوال، نشوب الحرب الأهلية.

 

ووفق هذا الاحتمال، سيتعين على روسيا أن تقرر ما إذا كانت ستتدخل أم لا. وهو قرار لا تريد روسيا مواجهته".


كان قادة أوكرانيا يدركون بوضوح أن الضغط من أجل توسيع حلف شمال الأطلنطي ليشمل أوكرانيا يعني الحرب. في ‏‏مقابلة أجريت معه في العام 2019‏، أعلن مستشار زيلينسكي السابق، أوليكسي أريستوفيتش، أن "ثمن انضمامنا إلى الناتو هو حرب كبيرة مع روسيا".‏


‏خلال الفترة بين العامين 2010 و2013، دفع يانوكوفيتش من أجل الحياد، بما يتماشى مع الرأي العام الأوكراني.

 

وفي المقابل، عملت الولايات المتحدة سرا للإطاحة بيانوكوفيتش، كما ظهر بوضوح ‏‏في شريط‏‏ تُسمع فيه مساعدة وزير الخارجية الأميركي ‏‏آنذاك، فيكتوريا نولاند،‏‏ والسفير الأميركي جيفري بيات، وهما يخططان لحكومة ما بعد يانوكوفيتش قبل أسابيع من الإطاحة العنيفة بيانوكوفيتش.

 

وأوضحت نولاند في المكالمة أنها كانت تنسق عن كثب مع نائب الرئيس آنذاك، جو بايدن، ومستشاره للأمن القومي جيك سوليفان، وهم نفس فريق "بايدن- نولاند- سوليفان" الذي أصبح الآن في قلب صنع السياسة الأميركية تجاه أوكرانيا. ‏


بعد الإطاحة بيانوكوفيتش، اندلعت الحرب في دونباس، بينما استولت روسيا على شبه جزيرة القرم.

 

وتقدمت الحكومة الأوكرانية الجديدة بطلب لعضوية الناتو، وقامت الولايات المتحدة بتسليحها وساعدت في إعادة هيكلة الجيش الأوكراني لجعله قابلاً للتشغيل المتبادل مع الناتو. وفي العام 2021، أعاد حلف الناتو ‏‏وإدارة بايدن‏‏ الالتزام بقوة بمستقبل أوكرانيا في ‏‏الناتو‏‏.‏


‏في الفترة التي سبقت الغزو الروسي مباشرة، كان توسيع الناتو في مركز الصدارة. ودعت ‏‏مسودة معاهدة اقترحها بوتين بين الولايات المتحدة وروسيا‏‏ (17 كانون الأول/ ديسمبر 2021) إلى وقف توسيع الناتو.

 

وحدّد قادة روسيا توسيع الناتو كسبب للحرب في اجتماع مجلس الأمن القومي الروسي ‏‏في 21 شباط (فبراير) 2022‏‏. وفي ‏‏خطابه إلى الأمة‏‏ في ذلك اليوم، أعلن بوتين أن توسيع الناتو هو السبب الرئيسي للغزو.


‏كتب المؤرخ جيفري روبرتس ‏‏مؤخرًا‏‏: "هل كان من الممكن منع الحرب من خلال إبرام صفقة روسية غربية تكون قد أوقفت توسيع الناتو وحيدت أوكرانيا مقابل ضمانات قوية لاستقلال أوكرانيا وسيادتها؟ من المحتمل جدا". في آذار (مارس) 2022، أبلغت روسيا وأوكرانيا عن تقدم نحو نهاية تفاوضية سريعة للحرب على أساس حياد أوكرانيا.

 

‏‏ووفقًا لنفتالي بينيت‏‏، رئيس وزراء إسرائيل السابق الذي كان وسيطا في تلك المفاوضات، فإن اتفاقا كان على وشك التوصل إليه قبل أن توقفه الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا. ‏


بينما تعلن إدارة بايدن أن الغزو الروسي غير مبرر ولم يأت نتيجة استفزاز، اتبعت روسيا الخيارات الدبلوماسية في العام 2021 لتجنب الحرب، بينما رفض بايدن الدبلوماسية، وأصر على أن روسيا ليس لها رأي على الإطلاق في مسألة توسيع الناتو.

 

كما دفعت روسيا بالدبلوماسية في آذار (مارس) 2022، بينما حال فريق بايدن مرة أخرى دون التوصل إلى نهاية دبلوماسية للحرب. ‏


‏من خلال الاعتراف بأن مسألة توسيع الناتو تقع في القلب من هذه الحرب، سوف نفهم لماذا لن تنهي الأسلحة الأميركية هذه الحرب. سوف تصعِّد روسيا بقدر ما يقتضيه الأمر لمنع توسع الناتو إلى أوكرانيا.

 

إن مفتاح السلام في أوكرانيا هو من خلال المفاوضات القائمة على حياد أوكرانيا وعدم توسيع حلف شمال الأطلسي.

 

وقد جعل إصرار إدارة بايدن على توسيع الناتو ليشمل أوكرانيا من هذا البلد ضحية لتطلعات عسكرية أميركية خاطئة وغير قابلة للتحقيق. وقد حان الوقت لوقف الاستفزازات، واللجوء إلى المفاوضات لإعادة السلام إلى أوكرانيا. ‏


‏*جيفري د. ساكس Jeffrey D. Sachs: أستاذ جامعي ومدير مركز التنمية المستدامة في جامعة كولومبيا، حيث أدار معهد الأرض من العام 2002 حتى العام 2016. وهو أيضا رئيس "شبكة حلول التنمية المستدامة" التابعة للأمم المتحدة، ومفوض "لجنة النطاق العريض" التابعة للأمم المتحدة من أجل التنمية.

 

كان مستشارًا لثلاثة أمناء عامين للأمم المتحدة، ويعمل حاليًا كمدافع عن أهداف التنمية المستدامة في عهد الأمين العام أنطونيو غوتيريس. ساكس هو مؤلف كتاب "سياسة خارجية جديدة: ما وراء الاستثنائية الأميركية" (2020). وتشمل كتبه الأخرى: "بناء الاقتصاد الأميركي الجديد: ذكي، عادل ومستدام" (2017)؛ و"عصر التنمية المستدامة" (2015) مع بان كي مون.‏

*نشر هذا المقال تحت عنوان:

The War in Ukraine Was Provoked—and Why That Matters to Achieve Peace

 

اقرأ المزيد في ترجمات