كاثي كيلي* - (بورتسايد) 1/4/2023
عند وقوع زلزال، يأتي المنقذون للنجدة من كل مكان في العالم. ولكن عندما تُشن الحروب، ترسل الحكومات المزيد من الذخائر فحسب، لتطيل بذلك أمد العذاب. وأولئك الذين لديهم شهية لا تشبع للحرب نادراً ما يلقون بالًا إلى الدمار الذي يتركونه خلفهم.
* * *
قبل نحو عشرين عاما، في بغداد، تشاركت الإقامة مع عراقيين ودوليين في فندق صغير، "الفنار"، الذي كان مقرا للعديد من وفود منظمة "أصوات في البرية" Voices in the Wilderness التي كانت تعمل في تحد صريح للعقوبات الاقتصادية المفروضة على العراق.
وقد اتهمنا مسؤولو الحكومة الأميركية آنذاك بأننا مجرمون بسبب إيصالنا الأدوية للمستشفيات العراقية. وفي الرد على ذلك، أخبرناهم بأننا نتفهم العقوبات التي هددونا بها (اثني عشر عاما في السجن وغرامة قدرها مليون دولار)، ولكن لا يمكن أن تحكمنا قوانين ظالمة تعاقب الأطفال في المقام الأول.
ووجهنا الدعوة إلى مسؤولين حكوميين للانضمام إلينا. وبدلاً من ذلك، انضمت إلينا بشكل ثابت ومستمر جماعات سلام أخرى تتوق إلى منع نشوب حرب كانت تلوح في الأفق.
في أواخر كانون الثاني (يناير) 2003، كنت ما أزال آمل بأن يتم تجنب الحرب.
كان تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية وشيكا. وإذا أعلن أن العراق لا يمتلك أسلحة دمار شامل، فقد ينسحب حلفاء الولايات المتحدة من خطط الهجوم، على الرغم من الحشد العسكري الهائل الذي كنا نشاهده على شاشات التلفزيون كل ليلة.
وعندئذ، جاءت الإحاطة الإعلامية التي قدمها وزير الخارجية الأميركية في ذلك الحين، كولن باول، في 5 شباط (فبراير) 2003، عندما أصر على أن العراق يمتلك بالفعل أسلحة دمار شامل.
وقد ثبت في نهاية المطاف أن عرضه كان مزورا من جميع النواحي، لكنه أعطى الولايات المتحدة، بشكل مأساوي، ما يكفي من المصداقية للمضي قدما بكامل طاقتها في تنفيذ حملة القصف المسماة "الصدمة والرعب".
ابتداء من منتصف آذار (مارس) 2003، قصفت الغارات الجوية المروعة العراق ليلا ونهارا. وفي فندقنا، صلى الآباء والأجداد من أجل النجاة من الانفجارات التي تصم الآذان ودويها المثير للغثيان.
في خضم ذلك الرعب، فقدت فتاة جذابة ومفعمة بالحيوية تبلغ من العمر تسع سنوات السيطرة تماما على مثانتها. وابتكر الأطفال الصغار ألعابا لتقليد أصوات القنابل وتظاهروا باستخدام المصابي اليدوية الصغيرة كبنادق.
زار فريقنا عنابر المستشفى؛ حيث كان الأطفال الذين شوهتهم الإصابات يئنون أثناء تعافيهم من العمليات الجراحية.
وأتذكر أنني كنت جالسة على مقعد خارج غرفة الطوارئ، وبجواري تشنجت امرأة من النشيج وهي تسأل: "كيف سأخبره؟ ماذا سأقول له؟"، كانت في حاجة إلى إخبار ابن أخيها، الذي كان يخضع لعملية جراحية طارئة، أنه لم يفقد كلتا ذراعيه فحسب، بل أنها أصبحت الآن قريبته الوحيدة الباقية على قيد الحياة.
كانت قنبلة أميركية قد أصابت عائلة علي عباس بينما يتشاركون تناول الغداء خارج منزلهم. وأفاد جراح في وقت لاحق بأنه أخبر علي بالفعل بأنهم بتروا ذراعيه. "ولكن"، سأله علي، "هل سأكون دائما هكذا؟".
عدت إلى فندق الفنار في ذلك المساء مغمورة بمشاعر الغضب والعار. وحدي في غرفتي، ضربت وسادتي، وغمغمت وعيناي مخضلتان بالدموع: "هل سنكون دائمًا هكذا؟".
طوال الحروب الأبدية في العقدين الماضيين، أظهرت النخب الأميركية في المجمع العسكري الصناعي والكونغرس ووسائل الإعلام شهية لا تشبع للحرب. ونادرا ما اهتمت هذه النخب بالحطام الذي تركته وراءها بعد "إنهاء" حرب هي في الأساس حرب اختيار.
في أعقاب حرب "الصدمة والرعب" في العراق في العام 2003، ابتكر الروائي العراقي، سنان أنطون، شخصية رئيسية، جواد، في قصته "غاسل الجثث"، الذي أرهقته الأعداد المتزايدة من الجثث التي يجب أن يهتم بها.
يقول جواد: "شعرت كما لو أننا ضُربنا بزلزال غيَّر كل شيء. وسوف نتلمس طريقنا لعقود مقبلة بين الأنقاض التي خلفها وراءه.
في الماضي كانت هناك جداول صغيرة بين السنة والشيعة، أو هذه المجموعة وتلك، والتي يمكن عبورها بسهولة أو التي كانت غير مرئية في بعض الأحيان.
الآن، بعد الزلزال، أصيبت الأرض بكل هذه الصدوع وأصبحت الجداول أنهارا. وأصبحت الأنهار سيولا مليئة بالدماء، وغرق كل مَن حاول العبور.
تم تضخيم صور أولئك الموجودين على الجانب الآخر من النهر وتشويهها... وارتفعت الجدران الخرسانية لتختم على المأساة".
* * *
"الحرب أسوأ من الزلزال"، هكذا قال لي الطبيب الجراح سعيد أبو حسان خلال القصف الإسرائيلي لقطاع غزة في 2008-2009، الذي أطلق عليه اسم "عملية الرصاص المصبوب".
وقال إن رجال الإنقاذ يأتون من جميع أنحاء العالم بعد وقوع زلزال، ولكن عندما تشن الحروب، ترسل الحكومات المزيد من الذخائر فحسب، مطيلة بذلك أمد العذاب والمعاناة.
وشرح آثار الأسلحة التي شوهت المرضى الذين يخضعون للجراحة في "مستشفى الشفاء" في غزة مع استمرار سقوط القنابل.
متفجرات المعدن الخامل الكثيف تقطع أطراف الناس بطرق لا يستطيع الجراحون إصلاحها. وشظايا قنبلة الفسفور الأبيض، المغروسة تحت الجلد في اللحم البشري، تستمر في الاحتراق عند تعرضها للأكسجين، مما يؤدي إلى خنق الجراحين الذين يحاولون إزالة المادة الشريرة.
وقال أبو حسان: "كما تعلمين، أهم شيء يمكنك إخبار الناس به في بلدك هو أن الشعب الأميركي دفع ثمن العديد من الأسلحة المستخدمة لقتل الناس في غزة. وهذا أيضا سبب في أن ما يحدث هنا أسوأ من الزلزال".
* * *
مع دخول العالم العام الثاني من الحرب بين أوكرانيا وروسيا، يقول البعض إنه من غير المعقول أن يطالب نشطاء السلام بوقف إطلاق النار والذهاب فورا إلى المفاوضات.
ولكن، هل من الأكثر شرفا مشاهدة تراكم أكياس الجثث، والجنازات، وحفر القبور، والمدن المدمرة التي تصبح غير صالحة للسكن، والتصعيد الذي يمكن أن يؤدي إلى حرب عالمية -أو حتى إلى حرب نووية؟
نادرا ما تتعامل وسائل الإعلام الرئيسية في الولايات المتحدة مع البروفيسور نعوم تشومسكي، الذي يعتمد تحليله الحكيم والبراغماتي على حقائق لا جدال فيها.
في حزيران (يونيو) 2022، بعد أربعة أشهر من بدء الحرب الروسية الأوكرانية، تحدث تشومسكي عن خيارين، أحدهما تسوية دبلوماسية عن طريق التفاوض.
و"الآخر هو فقط أن نطيل أمد الحرب ونرى كم سيعاني الجميع، وعدد الأوكرانيين الذين سيموتون، وكم ستعاني روسيا، وكم من ملايين الأشخاص سيموتون جوعًا في آسيا وأفريقيا، وكم سنمضي نحو تسخين البيئة إلى النقطة التي لن تعود فيها ثمة إمكانية لوجود إنساني قابل للعيش".
تذكر منظمة "اليونيسف"، في تقاريرها، كيف تؤثر أشهر من الدمار المتصاعد والنزوح على الأطفال الأوكرانيين: "ما يزال الأطفال يتعرضون للقتل، والإصابات، والصدمات العميقة بسبب العنف الذي أدى إلى النزوح على نطاق وبسرعة لم يسبق لهما مثيل منذ الحرب العالمية الثانية.
وتستمر المدارس والمستشفيات والبنية التحتية المدنية الأخرى التي يعتمدون عليها في التعرض للضرر أو التدمير. وقد تفرقت العائلات وتمزقت الحيوات".
وتختلف تقديرات الخسائر العسكرية الروسية والأوكرانية، لكن البعض أشاروا إلى أن أكثر من 200 ألف جندي من كلا الجانبين قتلوا أو جرحوا.
استعدادا لهجوم كبير يُتوقع أن يُشن قبل ذوبان الجليد في الربيع، أعلنت الحكومة الروسية أنها ستدفع مكافأة للقوات التي تدمر الأسلحة التي يستخدمها الجنود الأوكرانيون والتي تم إرسالها من الخارج.
ولا شك في أن فكرة مكافأة الدم هذه تقشعر لها الأبدان، ولكن على مستوى أكبر بأضعاف مضاعفة، راكمت كبرى شركات تصنيع الأسلحة الثروة بثبات من "المكافآت" منذ بدء الحرب.
في العام الماضي وحده، أرسلت الولايات المتحدة ما بلغت قيمته 27.5 مليار دولار من المساعدات العسكرية إلى أوكرانيا، وقدمت "مركبات مدرعة، بما في ذلك ناقلات الجنود المدرعة من طراز ’سترايكر‘، ومركبات المشاة القتالية من طراز ’برادلي‘، و’المركبات المحمية من الكمائن والمقاومة للألغام‘، و’المركبات المدولبة متعددة الأغراض عالية الحركة‘".
وشملت الحزمة أيضا دعم الدفاع الجوي لأوكرانيا، وأجهزة الرؤية الليلية، وذخائر الأسلحة الصغيرة.
بعد فترة وجيزة من موافقة الدول الغربية على إرسال دبابات "أبرامز" و"ليوبارد" المتطورة إلى أوكرانيا، تحدث مستشار وزارة الدفاع الأوكرانية، يوري ساك، بثقة عن الحصول على طائرات مقاتلة من طراز "ف-16" بعد ذلك.
وقال في تصريح لوكالة "رويترز" للأنباء: "لم يرغبوا في إعطائنا مدفعية ثقيلة، ثم فعلوا. لم يرغبوا في إعطائنا أنظمة هيمار، ثم فعلوا.
لم يرغبوا في إعطائنا دبابات، والآن يعطوننا دبابات. باستثناء الأسلحة النووية، لم يتبق شيء لن نحصل عليه".
من غير المحتمل أن تحصل أوكرانيا على أسلحة نووية، لكن خطر نشوب حرب نووية ظهر في نشرة "بيان علماء الذرة" الذي صدر في 24 كانون الثاني (يناير)، والذي حدد ساعة يوم القيامة للعام 2023 بتسعين ثانية قبل "منتصف الليل" المجازي.
وفي البيان، حذر العلماء من أن آثار الحرب الروسية الأوكرانية لا تقتصر على الزيادة المقلقة في الخطر النووي؛ إنها تقوض أيضاً الجهود العالمية لمكافحة تغير المناخ.
ويشير التقرير إلى أن "الدول التي تعتمد على النفط والغاز الروسي سعت إلى تنويع إمداداتها ومورديها، مما أدى إلى توسيع الاستثمار في الغاز الطبيعي بالضبط في الوقت الذي كان ينبغي أن يتقلص فيه هذا الاستثمار".
تقول ماري روبنسون، مفوضة الأمم المتحدة السامية السابقة لحقوق الإنسان، إن ساعة يوم القيامة النووية تدق ناقوس الخطر للبشرية جمعاء.
وتضيف: "إننا نقف على حافة الهاوية. لكن قادتنا لا يتصرفون بسرعة أو نطاق كافيين لتأمين كوكب مسالم وصالح للعيش.
من خفض انبعاثات الكربون إلى تعزيز معاهدات الحد من الأسلحة والاستثمار في التأهب للأوبئة، نحن نعرف ما يجب القيام به.
العلم واضح، لكن الإرادة السياسية مفقودة. ويجب أن يتغير هذا في العام 2023 إذا أردنا تجنب الكارثة. إننا نواجه أزمات وجودية متعددة. ويحتاج القادة إلى التمتع بعقلية الأزمة".
وكذلك ينبغي أن نفعل جميعا. تشير ساعة يوم القيامة إلى أننا نعيش في وقت مستعار. ونحن لا نحتاج إلى "أن نكون دائما على هذا النحو".
على مدى العقد الماضي، كنت محظوظة باستضافتي في عشرات الرحلات إلى كابول، أفغانستان، من قبل شباب أفغان يؤمنون بشدة بأن الكلمات يمكن أن تكون أقوى من الأسلحة. وقد تبنوا مثلا بسيطا وعمليا: "الدم لا يغسل الدم".
ونحن مدينون جميعا للأجيال المقبلة ببذل كل جهد ممكن لنبذ جميع الحروب وحماية هذا الكوكب.
*كاثي كيلي Kathy Kelly، (مواليد 1952): هي ناشطة سلام أميركية وداعية سلام ومؤلفة، وأحد الأعضاء المؤسسين لمنظمة "أصوات في البرية".
وحتى إغلاق الحملة في العام 2020، كانت منسقة مشاركة لحركة "أصوات من أجل اللاعنف الإبداعي". وكجزء من عمل فريق السلام في العديد من البلدان، سافرت إلى العراق ستا وعشرين مرة، وتواجدت بشكل خاص في مناطق القتال خلال الأيام الأولى من الحربين بين الولايات المتحدة والعراق. ومن العام 2009 إلى العام 2019، ركزت نشاطها وكتاباتها على أفغانستان واليمن وغزة، إلى جانب الاحتجاجات المحلية ضد سياسة الطائرات المسيرة الأميركية كمنسقة لحمة "احظروا المسيّرات القاتلة".
تم اعتقالها أكثر من ستين مرة في الداخل والخارج، وكتبت عن تجاربها بين أهداف القصف العسكري الأميركي وسجناء السجون الأميركية.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: