المتوكل طه يقدم رؤية نقدية لدور المثقف في "الثقافة والاحتلال"

1714047840779444800
الغلاف
عمان -  صدر عن مركز دراسات ثقافات المتوسط، كتاب بعنوان "الثقافة والاحتلال.. آليات العدمية والتغريب والاستلاب"، للشاعر الفلسطيني المتوكل طه، يقدم فيه تعريفا للثقافة الوطنية الفلسطينية، مع التركيز على تميز المبدع الفلسطيني تحت الاحتلال، وعلاقة المثقف الإشكالية بين الثورة والسلطة، ويقدم رؤية نقدية ومقارنة بين دور المثقف تحت الاحتلال وبعد "دولة" أوسلو.اضافة اعلان
في مدخل للكتاب بعنوان "حول الثقافة الوطنية الفلسطينية"، يقول المتوكل إنه في هذا الكتاب حاول أن يربط الذات الثقافية بالذات الوطنية، مبينا أن علماء الأنثروبولوجيا، ودارسي علم الاجتماع والأدب، والمهتمين بالسلوك الجمعي، علم النفس الاجتماعي، على اختلاف خلفياتهم الاجتماعي وانتماءاتهم الأيديولوجية، يوافقون على حد أدنى من تعريف الثقافة والعلاقة بين الثقافة والشخصية الفردية أو الشخصية الوطنية أو القومية. فالثقافة، بالتعريف المقبول عامة، هي النظام المركب من أنظمة أصغر منه تشمل كل مخلفات ومنجزات جماعة أو شعب من الشعوب، خلال فترة زمنية معقولة، بحيث يندرج تحت هذه الأنظمة كل ما هو مسجل أو يمكن روايته بالكلمة المرسومة "المكتوبة أو المحفورة"، أو المصوتة "الرواية والرموز والأشياء والأحداث والمخترعات، فأشكال الأدب والفنون التشكيلية والعلوم والتكنولوجيا كلها تدخل تحت هذا التعريف".
ويشير المؤلف إلى أن الثقافة الوطنية تشكل روح وضمير الشعب الذي أبدع هذه الثقافة، وأن الثقافة الرسمية "التربية والتعليم والإعلام والتنشئة الاجتماعية في الأسرة"، وغير الرسمية "الفلكلور والشفاهيات والإبداعات اليدوية والتشكيل"، تنقل من جيل إلى الجيل الذي يليه بواسطة أنظمة الاتصال المعروفة كالمدرسة والأسرة والإعلام في أبسط صورها وحتى أكثرها تعقيدا، فتنتج الشخصية الفردية، وفي الوقت نفسه، تنتقل الشخصية الوطنية بسماتها عبر الأجيال، على أساس هذه الحقائق، فإن الثقافة الوطنية الفلسطينية قد تشكلت عبر الزمان والمكان المحددين، واتسمت بسمات خاصة مميزة لها عن الثقافة العربية، رغم أنها مشتركة معها، ولكنها مغتربة عنها، وعن الثقافة الأخرى، خاصة الغربية، ومنها الثقافة الإسرائيلية الهجينة.
ويقول المتوكل إن الثقافة الفلسطينية مرتبطة بالشخصية الوطنية الفلسطينية على المستوى الجمعي والإنسان الفلسطيني كفرد، لافتا إلى أن السلطات الإسرائيلية، عن طريق فلاسفة الصهيونية ومفكريها يعرفون هذه العلاقة جيدا، ولذلك فهم يخططون، وقد فعلوا ذلك منذ القديم "مائة سنة وأكثر"، على تهديم الذات الوطنية الفلسطينية وإحلال الذات الإسرائيلية محلها.
ومن الطبيعي بالنسبة إليهم أن يكون تهديم الثقافة الوطنية هو الهم الأول، لأن الثقافة الوطنية الفلسطينية هي روح وضمير الشعب الفلسطيني، وما دام الهدف هو إنكار الوجود الفعلي والرمزي للشعب الفلسطيني، فإن تهديم الذات الثقافية هو "تفريغ الهوية الوطنية من روحها وضميرها"، والهجمة على الثقافة الوطنية تتخذ أشكالا عدة، مثل "إنكار الوجود المادي للشعب الفلسطيني (الديموغرافيا)، سحب الأرض ومصادرتها (المكان-الوطن)، تشويه الثقافة الوطنية وتهديمها (الزمان-التاريخ)، الممارسات ضد الرقص الفلسطيني، والفن التشكيلي، والصحافة، والفلكور، والمطابع، والتعليم والمدارسة، ودور النشر، على أشكال غاية في التعقيد"، مبينا أن هناك عناصر فلسطينية كثيرة تم الادعاء بأنها إسرائيلية، كالرقص والمبلاس والغناء، وتقديمه على أنه فن إسرائيلي، وحتى ألوان الطعام والشراب وبعض العادات والتقاليد في الأفراح والأتراح (الاستلاب الثقافي).
ويقول إن السلطات الاحتلالية استطاعت أن تشوه في نظر الرأي العام العالمي هذه الهوية وهذه الثقافة عبر هذه الطريقة، ولكنها، في الوقت نفسه، أحدثت رد فعل إيجابيا من جانب الشعب الفلسطيني الذي فهم ذلك على أنه ضمن تجربة التحدي، فانعكست نشاطات الفلسطينيين تحت الاحتلال وفوقه في أشكال مثل "حفظ التراث وتعميقه وجمعه وإعادة تسجيله وتحليله ونشره في مجلات الفلكلور والأدب والمسرح والتشكيل والفنون الحركية والعادات والتقاليد"، بقصد حمايته (الوعي بالذات الثقافية)، وهناك حملات توعوية ضد سرقة الثقافة، والتأكيد أن هذه الفنون والآداب وعادات اللباس والطعام هي فلسطينية، المنشأ والمصدر، وبالتالي فإن تأكيدها كإنجاز فلسطيني هو الرد على سرقتها وتشويهها من قبل السلطات الإسرائيلية المحتلة. وإغناء هذا التراث ومتابعة الإبداع فيه رغم الظروف الصعبة التي يخلقها الاحتلال، ويتقدم الفلسطينيون (الأدباء، والشعراء، والصحفيون، والمغنون، والفنانون التشكيليون، والمسرحيون، والمعلمون)، التضحيات من حبس، ونفي، وتعذيب، في سبيل تأكيد هذا الهدف النبيل المرتبط بحفظ التراث والثقافة وإغنائهما وتطويرهما.
ويشير المتوكل إلى من يقول إن الثقافة الفلسطينية، ثقافة عربية، ولكن للثقافة الفلسطينية خصوصية التجربة السياسية المباشرة "ممارسة التحدث"، وهنا تحكم العلاقة الفلسطينية العربية ظاهرة اغتراب أساسية. فالكتب والنشرات والإنتاج الثقافي الفلسطيني ليست عربية تماما، لأنها مطاردة في الوطن العربي، بسبب اغترابها عن الثقافة العربية الأم. وللثقافة الوطنية الفلسطينية ثلاثة مستويات، كما يقول المؤلف؛ الأول: "الإدراك (العلوم والمعارف والقصص والخرافات والأساطير التي تفسر علاقة الفلسطيني بالكون العام والبيئة الخاصة)، ومستوى الوجدان (الشعر والأدب وأنواع الفنون)، ومستوى السلوك (الإدراك والأعمال السياسية والمقاومة وأشكال العادات والتقاليد)".
ويشير إلى أن هذه المستويات الثلاثة تنعكس في مستويات الشخصية الفردية والوطنية، وبما أن هذه المستويات هي نفسها مستويات الضمير وأساس الذات، فإن الممارسات الفلسطينية السياسية وأعمال المقاومة تجمعها ظاهرتا الاغتراب (علاقة الثقافة الفلسطينية بالثقافة العربية الأم)، والتحدث (المقاومة التي تبديها الذات الفلسطينية لممارسات الاحتلال حفاظا على نفسها ضد السلب والضياع).
ويرى أنه من خلال هذا التحليل النظري، نستطيع أن نفهم كيف ولماذا وإلى أي مدى تحاول سلطات الاحتلال الإسرائيلية طمس الثقافة الوطنية الفلسطينية وإلى أي مدى يجب على حراس الثقافة الوطنية الفلسطينية وحماتها أن يكرسوا وجودهم لحماية هذه الثقافة، وتطويرها، وربطها دائما بالسلوك السياسي المقاوم، فإذا اتفقنا على مصطلح الثقافة الوطنية، فمن الطبيعي توقع هذه الهجمة.
ويشير المتوكل إلى أن الثقافة الوطنية تعني تطوير الوعي الوطني وتنمية القدرات الثقافية، والأكاديمية، والأدبية الفلسطينية، وتسجيل النمو الحضاري داخل الوطن وخارجه، ورصد تفاعلات التغيير الاجتماعي وتجذير الهوية الوطنية، وخلق جيل فلسطيني جديد يتلقى تربية منفتحة، عملية، وقادرة على المواجهة مع الخارج من جهة، وعلى النقد مع الداخل من جهة أخرى. ومن شأن هذه العملية المتكاملة رفع مستوى التحدث الوطني، ونفي أي إمكانية لشطب الشعب الفلسطيني، أو إعادة فرض الوصاية العربية وغير العربية عليه.
ويتحدث المتوكل عن الهجمة الإسرائيلية التي تتجه على الثقافة الفلسطينية بأشكالها كافة، في ثلاثة مسارب رئيسة هي: في المجتمع الإسرائيلي؛ حيث تحاول قدر المستطاع عدم وصول هذه الثقافة إلى المجتمع الإسرائيلي، وتعمل سلطات الاحتلال على إشاعة روح العداء والاستعلاء تجاهها. في المجتمع الفلسطيني، حيث تخلق السلطات الاحتلالية ظروفا مادية ونفسية سيئة تجعل من الصعب للغاية الإبداع في ظلها، كما تجعل الثقافة شيئا ثانويا في ظل الصراع من أجل لقمة العيش، وتعطي السلطات لنفسها حقوقا عجيبة لاضطهاد الشعب الفلسطيني بحجة الأمن، فتمنع وتصادر وتغلق وتطرد وتسجن وتعذب وتقتل، وهي مرتاحة الضمير.
وفي المجتمع الدولي، حيث تعمل سلطات الاحتلال جاهدة على إثارة عداء المجتمعات الغربية تجاه الثقافة الإسلامية بصورة عامة، والثقافة العربية والفلسطينية بصورة خاصة، متهمة إياها بالإرهاب والرجعية ومعاداة المرأة ومعاداة الانفتاح، وفي حال عدم تمكن هذه السلطات من طمس ظاهرة معينة في الثقافة الوطنية الفلسطينية، فإنها تنكر نسبها. مثلا "من المستحيل على مؤسسات ثقافة رسمية أن تعترف بوجود فن فلسطيني، فتسميه في العادة: فن عربي من (يهودا والسامرة)، أو من الضفة والقطاع في أحسن الأحوال".
وخلص إلى أن السلاح الأخير يكون في العادة تزوير نسب هذه الظاهرة، فمثلا تقول: "تطريز عرابيسك"، وبعد ذلك تطريز من البلاد، ومن ثم تلبسه مضيفات الطيران الإسرائيلي في شركة (إل عال)، والظاهرة العجيبة أننا نرى الأحزاب الإسرائيلية السياسية تتحدث كثيرا عن شعب فلسطيني، بينما نرى أن المؤسسات الثقافية الرسمية، والتي من المفروض أن تكون إلى اليسار من هذه الأحزاب، تنكر باستماته وجود ثقافة فلسطينية.
ويقول "إذا بحثنا عن سبب هذه الظاهرة غير العلمية في المؤسسات الإسرائيلية الثقافة المذكروة، لوجدنا أسبابا عدة، أهمها اعتمدت الدعاية الصهيونية، ومنذ بدايتها، على كذبة كبيرة تقول (إن الشعب اليهودي يعود إلى أرض الميعاد الخالية من الناس، وما عدا بعض البدو الرحل، وأي إشارة أو دليل لوجود حضارة وثقافة لهذا الشعب تنسف هذه الكذبة من أساسها)، كما أن وجود ثقافة فلسطينية تعني وجود شعب وراء هذه الثقافة، والشعب في العرف الدولي يجب أن يكون له حقوق معينة، وعلى رأسها حق تقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة".
ويرى المؤلف أن وجود ثقافة فلسطينية متميزة يلغي صفة الإرهاب والتخلف عن هذا الشعب، مما يكسبه تأييد ومساندة وتضامن شعوب العالم معه، كما أن الجهات التقديمية الأجنبية التي تحاول التعامل مع الثقافة الفلسطينية، وليس دعمها، وتواجه حملة دعائية وقمعية من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي، تشابه حملات القمع تجاه المؤسسات الفلسطينية.
وتحت عنوان "الثقافة تعبير عن وجود"، إذ نظرنا إلى جوهر المشكلة الفلسطينية، فإننا نجد تفسيرا بسيطا وواضحا للسؤال الذي يقول "لماذا الهجمة على الثقافة الوطنية"، وقد نجيب عن السؤال من خلال إثارة سؤال آخر "لماذا الهجمة الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني منذ بداية القرن العشرين أو قبل ذلك؟"، فإن وجود ثقافة وطنية فلسطينية يعني أن هناك شعبا أنتج هذه الثقافة. ووجود شعب يعني بطلان المقولة التي روجها الصهاينة، وفحواها أن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، وبالتالي فإن الهجمة على الثقافة الوطنية الفلسطينية ليست منفصلة عن محاولات إسرائيل الرامية إلى شطب وجود الشعب الفلسطيني من الأساس، وذلك باعتبار الثقافة الوطنية تعبيرا عن وجود هذا الشعب، وبعثا لهويته الوطنية التي هي سلاح حر يثبت زيف تلك المقولة.