"ما جرى في الدومينيكان".. ميس داغر تعامل الواقع بما يليق به من سخرية

1686214902965296400
غلاف الكتاب- (من المصدر)
* وليد أبو بكر

عمان- قصص الكاتبة الفلسطينية ميس داغر في مجموعتها "ما جرى في الدومينيكان" (العائدون للنشر ـ عمان ـ 2022) تنتمي في غالبيتها إلى تصنيف القصة القصيرة جدا؛ وبالرغم من الإطالة التي تلحق بعدد من القصص، فإن معظم ما في المجموعة، كما في المجموعات السابقة للكاتبة، يحمل أبرز سمات التصنيف، من حيث اختصار السرد أولا، واختصاره في حدث واحد، يركز على شخصية واحدة، أو على مجموعة متشابهة، مع غياب الثرثرة بسبب الاقتصاد في اللغة؛ ثم يأتي بعد ذلك توجه إلى التورية التي يجري تطويعها لتناسب الموقف، الذي تميزه الغرابة في اختيار مادته، مع جرأة في الاختيار، نادرا ما تحسب حساب ما يمكن أن تثيره من حساسية، أو من ردود فعل، (حين تجد من يقرأها بين من تمسهم!) وقد أشارت القصص إلى أن ذلك حدث في واحدة من الحالات على الأقل. ثم يتم تعميد التصنيف بما يضاف إلى السرد من سخرية تلقائية، عميقة ومؤثرة، لا تخلو منها أي قصة، وإن تفاوت وضوحها أو تنوعت حدتها.اضافة اعلان
يضاف إلى ذلك، أن "الضربة" التي تحملها نهايات القصص، تلخص أسلوب الكاتبة، أو تشخص التقنية التي تختارها، وهي تعي أن النهاية غير المتوقعة أوضح ما يميز هذا النوع من الكتابة، إذا حققت شرطها الفني، بأن تكون منسجمة مع المقدمات التي توصل إليها. إنها النهاية التي توقظ الانتباه لما تطمح القصة إلى أن توصله، فهي تنبه المشاعر، وكأنها ترسم كاريكاتيرا ناجحا، لصدقها من ناحية، ولصعوبة التنبؤ بها من ناحية أخرى. وكثيرا ما تبدو هذه النهاية وكأن الكاتبة تمنح المتلقي فرصة كي يتأمل، حتى يكتشف أن القصة لا تكتفي بأن تقدم له ضحكا من الواقع فقط، بل تمارس الضحك عليه، وتحديدا على من يتهافت على تسخيره لصالحه، في أي مجال، لأن في ذلك هزيمته، أو ما يعتبر اختياره لسبيل لا يقبله إلا العجز أمام هذا الواقع، ما يسمح بالتظاهر، كحيلة للتخفي أو مداهنة الصدق، تشق طريقا واسعة للنفاق، أبرز سمات الزيف الذي تدينه القصص جميعها.
تتلخص طريقة الكاتبة عادة، في اختيار واحدة من الشخصيات التي يعرف عنها تزييف الواقع في محاولة لتجميله، أو الإيهام بصورة مختلفة له، أو تحمله على الأقل. ويكمن حسن الاختيار في أن تكون هذه الشخصية ممثلة للواقع الحقيقي الذي تراه مزيفا في معظم تفاصيله، قبل أن تضع هذه الشخصية في موقف حدي صعب، ليقوم الاختيار الذي تتوصل إليه يفضح الزيف في ما تعتقد أو تفعل، بتلك الضربة التي يمكن أن توصف بأنها قاضية، في نهاية اللعبة القصصية.
هذه الشخصية يمكن أن تكون حقيقية تماما، يعرفها من يعرفون البيئة التي تغترف منها الكاتبة مادتها، لكنها تتحول خلال الكتابة إلى شخصية قصصية مفترضة، شبه خيالية، حين يتم تغريبها في النص، لتشير إلى نموذج قادر على تمثيل من يشبهونها داخل المجتمع.
خير مثال على هذه الصيغة يمكن أن يلاحظ بشكل لا لبس فيه، بمراجعة قصتين متتامتين في المجموعة: ففي قصة "نصوص مكدسة" تتحدث الكاتبة عن واقع الكتابة من حولها الآن، وهو الموضوع الأثير الذي تعالجه في عديد من قصصها، بسبب ما ترصده من تهافت واسع على الكتابة في غياب الحد الأدنى من مؤهلاتها عند معظم من يرتكبون هذا الفعل، حتى وإن وجدوا قلة النفاق لأسبابها الشخصية.
تلخص الكاتبة رأيها بطريقة سلسة، حيث تجعل الجمهور لا يحترم أصحاب الشعر المزيف، دون أن يحسب حسابا للأجيال، لأنه لا يجد نفسه في ما يتلى. إن جمهور الشاعر غير الأصيل يعبر عن رفضه له بمقاطعته. ولتصوير هذا الواقع اختارت القصة شاعرا شابا (وصف بأنه شخصية تافهة) سبق أن تكدس كثير من إنتاجه، لكن الجمهور الذي جاء ليستمع إلى شعر غير مصنوع أو مفتعل، لا يتردد في التسلل بكامله، ليدخن خارج الصالة. والأمر لا يقف عند الشاعر الشاب، فجمهوره الهارب، يتفاجأ في الخارج بأنه يلتقي بجمهور آخر، لشاعر أقل شبابا، تسلل بالطريقة نفسها، من صالة مجاورة، لينفث دخانه في الهواء أيضا.
تستكمل الكاتبة هذه القصة بواحدة أخرى بعدها، بعنوان "في خلقه شؤون"، يرافقها هامش، هو الوحيد في المجموعة كلها، وربما يقصد منه أن يكون مفتاحا لشرح ما يمكن أن يكون غامضا في أي من القصص. الهامش يشير إلى أنها كتبت "بعد فصل الكاتبة من عملها إثر كتابتها ونشرها للقصة السابقة" (الهامش ص 82)، وفيها يظهر أن صاحب الأمر (الكتابي ـ الوظيفي) أصر على أنه هو المقصود بالشخصية التافهة في تلك القصة، بينما أصرت صاحبة القصة على أنها كتبت عن ظاهرة عامة. ومن السهل القول: "إن كلا الادعائيين صحيح"، فالكاتبة اختارت نموذجا من ظاهرة حقيقية وعامة، ورئيسها في العمل أدرك أنه النموذج، لأنه يعرف أنه ينتمي إلى من يتظاهرون بالصدق أمام واقع مزيف، وأنه جزء ممن يشكلون غالبية من يكتبون. ومن يعرفون الكاتبة وما كانت تعمل، يدركون أن تحويلا واضحا حدث في الشخصيات، فهي ـ على سبيل الإشارة ـ لم تكن تعمل تحت رئاسة شاعر، ولا في زمالة كاتب ذكر.
المفارقة هنا تكسب قوتها من إصرار الشخصية على إدانة نفسها، رغم وجود سبيل لنفي التهمة، وهذه حالة تغلب على معظم القصص، لتمنحها طبيعتها الساخرة، وهي في الواقع تبدأ من عنوان المجموعة، كعتبة أولى، لأنه يستلهم لأزمة شهيرة في مسلسل سوري معروف، ثم تستمر مع معظم عناوين القصص، وتتوسع داخل كل قصة من خلال اختيار الحدث العادي وتغريبه، واستلهام الوقائع من الحاضر ومن التاريخ الذي يمكن أن يكون مخترعا، إضافة إلى أنسنة الحيوان (كالأرنب) والجماد (كرغيف الخبز)، في بعض القصص.
هذا النموذج من الكتابة، يضيف إلى السخرية عمقا يكون له تأثيره. ومع تأمل قصص المجموعة، يمكن التوصل إلى العديد من سماتها الثابتة، التي تمنح الكاتبة شخصيتها التي تطبع قصصها. وهي سمات تكون أكثر وضوحا كلما كانت القصة أقصر، لأن تأثير النهاية المفاجئة لا يحتاج إلى كثير من التفاصيل.
وإذا كانت السخرية هي الأسلوب الأكثر استخداما في هذه القصص، فإن تنوع الشخصيات والأحداث هو السمة التالية. وقد توفر هذا التنوع بسبب تعدد القصص من ناحية، ورغبة الكاتبة في تغطية مساحة واسعة مما أثار اهتمامها من صور الزيف التي لا تحد، في الواقع الذي تتأمله بدقة، وهو ما يشكل همها الأول من الكتابة.
ولا شك في أن ما تراه في عالم الكتابة من استسهال أو تهافت، يظهر كأولوية، لأن نسبة الكتاب بين شخصيات القصص، أو أبطالها، تفوق أيا من المهن التي تحدثت عنها المجموعة، رغم كثرة هذه المهن، التي لا تكاد تترك مجالا دون أن توجه له سهامها، بدءا من الساسة، ومن ضمنهم بالطبع مدمنو التفاوض الذي لا جدوى منه، كما أثبتت سنواته الطويلة، وصولا إلى النساء وأزواجهن، والحياة الأسرية غير السوية، إضافة إلى ما يشار إليه من ظواهر سلبية متعددة، كما في واقع المرأة وما يلحق بها من عناء في مجتمعها الظالم، وفي تظاهرها المفتعل في بعض الأحيان؛ وكما في ظاهرة التطبيع السياسي أو الاجتماعي، أو الإيمان بالخرافات واللجوء إليها، أو وراثة الفقر، أو تفشي الأوهام أو الخضوع للواقع كأساس في متطلبات الزعامة.
ولعل أهم ما لمسته المجموعة من سلبيات، هو سطوة الواقع على تطبيع من يعيشون فيه، بحيث لا يكون واقعا فاسدا فحسب، بل هو واقع يملك القوة على الإفساد أيضا، وهي تصل إلى ذلك عبر نظرة متأملة لا تكتفي بما يوحي به سطح الأحداث. ولعل في قصة "البعثة الهولندية" ما يجمع كثيرا من هذه السمات التي ترافق أسلوب الكاتبة: فالمسؤول الحكومي المتأنق جدا أمام البعثة الهولندية، كمظهر حضاري زائف، يفرغ أربعة من أكياس الملح الصغيرة في مشروبه الساخن، ظانا أنها السكر، ما يجعل المترجمة تهمس له، وهي تراه يهم بالكيس الخامس، بأنه يفرغ ملحا في كأسه، فيصلها رده الغافل الهامس مطمئنا: "لا تشغلي بالك. كله على نفقة البعثة الهولندية".
فكرة تطبيع الواقع المر للناس حتى يصبح ممثلا للقدر في حياتهم، التي تكون واضحة في قصة "معضلة أرنب"، تذكر بقصة زكريا تامر "النمور في اليوم العاشر" التي تركت أثرا كبيرا على الكتاب، رغم بساطتها. والتأثر "تناص" من نوع ما، لم تهرب الكاتبة منه، بل يمكن القول: "إنها جيرته لصالحها"، في الفكرة مثلا، تحيل قصة "أسعد الناس" إلى مسرحيتين شهيرتين، الأولى هي "نهر الجنون" لتوفيق الحكيم، والثانية هي "الخرتيت" ليوجين أونيسكو. كما أن عنواني القصتين يذكران بما سبقهما في حالات أخرى، كما هو مفهوم كأمثلة من العناوين: "البعثة الهولندية" و"صريع الأماني" و"عرف المنطق"، و"يا قلبي لا تتعب قلبك" و"موهبة القرن"، التي تمتد إحالاتها إلى مصادر معروفة.
ميس داغر صادقة في توجهها، جادة في كتابتها، غير معنية بأن تكون لها مجرد حلية اجتماعية، كما يفعل عديدون حولها؛ وهي تؤكد ذلك في مجموعاتها القصصية الأربع، التي صدرت حتى الآن، كما تفلح في أن يكون لها نمط خاص في أسلوبها غير المهادن، الذي تتعامل من خلاله مع الواقع، التقاطا لسلبياته، ثم ترتقي بما تختار ليتحول إلى فن سردي راق، كما تقتضي الكتابة.

روائي وناقد*