بيوقراطية.. نسخة باهتة!

جهاد يونس القديمات

لسنا بصدد سرد تاريخي لنشأة البيوقراطية ومراحل تطورها وصولا إلى نسختها الحالية المطبقة في العديد من المؤسسات الرسمية وبعض منظمات القطاع الخاص في عالمنا العربي، بل الهدف هو تسليط الضوء على الآثار المترتبة على تطبيق النسخة الباهتة منها، وتكلفة الفرصة الضائعة والمحتملة.اضافة اعلان
البيوقراطية هي واحدة من النماذج التنظيمية التي تركز على الأداء الجيد وتعزز الانضباط والتنظيم في المنظمات الى حد ما، وتتميز بالتركيز الشديد على الإجراءات المكتبية، والرتابة في الحركة والزمن، والامتثال الكامل للقواعد والتعليمات الصارمة، بهدف نهائي مفترض هو تحقيق الفعالية من خلال التحكم في العملية الإدارية برمتها، لكن ذلك يوحي أيضا بوجود قبضة حديدية ناعمة تتحكم في مفاصل العمل الإداري باتجاه المركزية التي تتتشابك فيها الأدوار وتتداخل فيها المهمات إلى حد الإفراط والتفريط، الإفراط في الإجراءات والخطوات، على حساب التفريط في المكاسب الممكنة.
بمعنى آخر التركيز على الإجراءات والخطوات وإهمال النتائج المرجوة، حتى أصبحت الإجراءات عقيدة إدارية متطرفة، يحرص فيها العاملون ورؤسائهم على تطبيقها حرفيا دون وعي بعواقبها السلبية ان جاز التعبير، وهنا تكمن المخاطر الحقيقية للبيوقراطية بنسختها الباهتة التي ترفض القراءة ما بين السطور، وتتمسك بحرفية النص وتتنصل من مضمونه على منهج قوله تعالى «وجدنا آباءنا لها عابدين»، انسداد كامل للافق، وانحسار شامل للمنطق.
تطبيق البيوقراطية الزائدة أحيانا التي لا داعي لبعض إجراءاتها وخطواتها هي بمثابة ضياع حقيقي لكفاءة الموارد وحسن استخدامها، وتؤدي دوما الى كلف إضافية يمكن تجنبها، وخسارة فرص يمكن اقتناصها.
التساؤل المهم هنا كيف يمكن مساءلة المتسببين في زيادة الكلف وضياع الفرص، وكيف سيتم تقييم مهنيتهم وقدرتهم على التفكير الاستراتيجي؟ نجزم أن أداء هؤلاء سيكون كأداء الأحصنة في حلبات السباق التي توضع على أعينها غمامات Blinders كي لا ترى سوى ما يفترض أن تراه، ويحجب عنها مخاطر المضمار، فلا تفزع ولا ترفس، ولا تتشتت.
لسنا ضد تنظيم الأعمال ومهنية الوظائف بقدر إنكارنا أن تبقى محصورة في مجموعة وثائق ومستندات، وبضعة أختام وتوقيعات، نحن ضد (مهنية الأوراق) فقط جملة وتفصيلا على حساب تحقيق الأهداف الحقيقية للمنظمات.
ثبت عمليا أن البيوقراطية بنسختها الباهتة وصورتها القاتمة لا تحقق مكاسب على المدى الطويل، بل على العكس تماما خسائر مضمونة النتائج، لآثارها السلبية على أمور عدة أهمها:
البيوقراطية الزائدة تؤسس لانطباعات سيئة على سمعة المنظمات في بيئتها الداخلية والخارجية، فيشقى العامل ولا يرضى العميل، كما أثبتت دراسات عدة أن السمعة المنظمية تتحقق بريادة أدائها، وينعكس ذلك حتما على الأرباح والحصة السوقية في القطاع الخاص، وعلى رضا المراجعين ومتلقي الخدمات في المؤسسات الرسمية.
البيوقراطية بنسختها الباهتة تقضي على المرونة المنظمية، والرشاقة المؤسسية، فلا تتكيف مع المتغيرات، ولا تتعاطى مع المستجدات، فتبقى حبيسة الروتين معزولة، ومعادية للحداثة، باتجاه الانقراض الديناصوري بدون شك.
البيوقراطية الباهتة لا تستجيب للأحداث بشكل طبيعي وفي الوقت المناسب، وقد يطول اتخاذ القرارات الحاسمة والضرورية فيها، وقد تتولد أحداث جديدة عند اتخاذ قراراتها استجابة لأحداث قديمة.
البيوقراطية الباهتة ربما تقتل الإبداع والابتكار والتفكير خارج الصندوق، وتقف حاجزا ضد مشاركة المعرفة بكفاءة، فتضيع الخبرات والمعارف برحيل أصحابها، وتفتقر فيها صناعة القرار للمعلومات اللازمة والصحيحة.
لكن من جانب آخر بالغ الأهمية، فإن التطبيق الجيد والمتزن للبيوقراطية لا ينفر الاستثمار أو على الأقل لا يشكل عائقا أمامه، فأحيانا تؤدي مركزية التحكم واتخاذ القرار إلى التحيز والتمييز لصالح جهة دون أخرى، فتضيع الفرص الحقيقية، ونعود لمربع بناء الثقة من جديد.
هذه هي بعض تبعات تطبيق البيوقراطية بنسختها الباهتة التي تم حصرها بشكل موجز، ولا يمكن مواجهة آثارها السلبية دون ديمومة التوازن والتحديث والتطوير، وأن يكون ذلك نمط حياة إداري تنظيمي جماعي، شعاره تلقائية التحديث ووجوب التنفيذ.