من يسخف تفكيرنا؟

د. محمود أبو فروة الرجبي

لا بد لنا من الخروج من كارثة تسخيف وتسطيح الثقافة في مجتمعاتنا العربية كافة، حتى نستطيع أن نتحول إلى أمّة منتجة ثقافيًا، واجتماعيًا، وعلمياً، وسياسيًا، وصناعياً، وألا نبقى عالة على ما ينتجه الآخرون، مما لا يتوافق مع ما نريده، ومع قيمنا، وأخلاقنا العامة.اضافة اعلان
نقصد بتسخيف وتسطيح الثقافة هو القيام ببث أو نشر محتوى هابط للناس باستخدام أي وسيلة بث أو نشر رقمية أو إعلامية، بطريقة تجعلهم لا يفكرون بأسلوب منطقي، وتجعلهم يحيدون الطموحات العالية الجدية لصالح مجموعة من الأهداف غير المنتجة ثقافيًا، أو اجتماعيًا، أو اقتصاديًا، فينشأ الإنسان لا يعرف من الـمعلومات إلا ما يخدم رغباته الغريزية، أو محيطه الصغير.
وهذا الأمر نرى عددًا من المؤشرات الدالة عليه، مثل انعدام الثقافة عند الشباب، وعدم القدرة على الإجابة عن أسئلة بسيطة، إضافة إلى الانقطاع التاريخي بين ما حصل سابقًا مع الأمة، وبين الجيل الجديد، وانحسار الأحلام بالانتشار على منصات التواصل الاجتماعي، أو الحصول على الشهرة، أو شراء مقتنيات غالية من أغلى الماركات العالمية، وتقييم الآخرين بناء على ما يلبسون ويشترون، وليس على أفكارهم، وجودتها، وقدرتهم على إحداث الأثر الإيجابي في الحياة، وهذا له عدة أسباب.
أولًا: انتشار الإنترنت، ومنصات التواصل الاجتماعي، وسيطرة مجموعة من مؤثري منصات التواصل الاجتماعي على المجال العام ممن يسعون إلى الانتشار، والحصول على الإعجابات، والمشاهدات على حساب الـمحتوى، وهذا جاء من خلال عدم وجود ضابط للبث أو النشر، فهذه الـمنصات تعطي الفرصة لأي كان، أن يبث وينشر ما يريد بعيدًا عن أي اعتبارات لها علاقة بعمق، أو ثراء الـمحتوى، ومن خلال التجريب توصّل هؤلاء إلى قناعة أن الـمحتوى الصادم أخلاقيًا، واجتماعيًا، والتافه الذي يركز على أمور غير مهمة يحصل على انتشار أكبر، وبدلًا من محاربة هذا الأمر، تم تعميقه من خلال إنتاج كم هائل منه، وبأساليب متجددة، جعلته سائدًا في المجال العام، وأبعدت من طريقها الـمحتوى القيّم الذي يحتوي على معاني، وعبر، ويؤسس لثقافة واعية، قادرة على إحداث التأثير الإيجابي في الواقع.
ثانيًا: تغير الأولويات في الحياة، وطغيان الجانب المادي، وتقلص دور الروحانيات، وسيادة مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، وضرورة أن يحصل كل إنسان على ما يريده بغض النظر عن الوسائل، إلى درجة أن العلاقات الإنسانية الجميلة بدأت تختفي، وامتد تأثيرها من جيل الكبار الذين وصلوا إلى سن وجدوا فيه ضرورة أن يقوم كل واحد منهم بالحصول على أكبر قدر من الثروة، والقوة، والنفوذ لتحقيق أغراضه إلى الشباب الصغار، والأطفال، ويمكن لأي أب أو أم ملاحظة درجة الأنانية العالية التي غزت كثيرًا من الأطفال، ومستوى التفكير القائم على الحصول على الملذات لديهم، وكيفية تقييمهم للآخرين بناء على حجم المصلحة المتحصلة منهم.
ثالثًا: سيطرة القيم الرأسمالية غير المقيّدة بالإنسانية، ومن مبادئها أن قيمة الإنسان تتحدد بمقدار ما يملك، وما ينفق، وأن الـمعيار الوحيد للحكم على الناس هو امتلاكهم الـمال، وأن المصلحة الـمادية الضيقة هي الأساس في العلاقات الاجتماعية، وإذا كان الغرب قد وصل إلى هذه الـمرحلة المؤلمة خلال عقود طويلة جدا، فيبدو أننا نصل إليها بسرعة أكبر مما نتصور، وبطريقة غير ملائمة لبيئتنا كوننا لم نمر بالمراحل التدريجية للتطور، فقفزنا في الهواء، ولم نقع على أرض صلبة نؤسس عليها لأسلوب حياة جديدة مناسبة لنا.
رابعًا: تبدل نمط حياة الناس نتيجة تغير أنماط الإنتاج، ولم يتم الإبقاء على القيم الإيجابية لنمط الحياة القديمة وفي الـمقابل لم يتم استثمار القيم الإيجابية في النمط الجديد، وبذلك أصبحت الحياة مجموعة من القيم السلبية في غالب الأحوال، فقد خرجنا في مجتمعاتنا العربية من البداوة، والفلاحة إلى مرحلة المدنية، وللأسف لم نأخذ من الـمدينة – في غالب الأحوال- قيمها الإيجابية، بل أضعنا القيم الإيجابية الجميلة التي كانت تطبع بداوتنا، وفلاحتنا، وفي الوقت نفسه لم نكسب من الـمدينة جمالها، وطريقة تفكيرها، وقيمها الإيجابية، وكأننا وصلنا إلى مرحلة من الانتقائية السلبية، وقد كنا سابقًا نقول إننا نمر في مرحلة مخاض ناشئة عن التطورات السريعة في وسائل الإنتاج في العالم العربي، وعندما أوشكنا على الاستقرار دخل الإنترنت إلى حياتنا، فقلبها رأسا على عقب بحيث أصبح المخاض هو الأصل، والاستقرار هو الحالة الطارئة، وكي لا نكون سلبيين، فلا بد لنا من:
أولًا: دعم مجموعة من مؤثري منصات التواصل الاجتماعي ممن ينتجون محتوى نافعاً ومفيدًا، وفي الوقت نفسه لديهم القدرة على التواصل مع الشباب، والانتشار بينهم، لينتجوا الـمزيد من الـمحتوى الجيد الذي يمكن أن يعيد ترتيب أولويات الشباب، ويجعلهم أكثر قرباً من الواقع، وإنتاجية من الناحية الفكرية والعملية.
ثانيًا: تغيير طريقة إعطاء المناهج في الـمدارس والجامعات لتنقل من أسلوب التلقين، والاعتماد على الحفظ، إلى التدريب على مهارات التفكير الناقد، ليصبح الناس لدينا قادرين على التفريق بين الغث والسمين، وبين ما هو نافع وغير نافع.
ثالثًا: التشجيع على القراءة من مختلف مستويات الدولة، وجعلها هدفا على مستوى الدولة لا الحكومات، وتقديم حوافز لمن يقرأ بعمق ابتداء من طلبة الـمدارس، والجامعات، ومرورًا بالموظفين في القطاع الخاص والعام، وانتهاء بربات البيوت لنصل إلى بناء ثقافي واع قادر على إحداث التغيير الإيجابي.
رابعًا: تشجيع وسائل الإعلام على إنتاج محتوى راقٍ مقابل دعم مادي، أو إعفاء من ضرائب أو ما شابه، وضمن مجموعة معايير واضحة بعيدًا عن المحسوبية والواسطة، للمساهمة في إعادة بناء التفكير العلمي في عقول الناس، ولجعلهم أكثر طموحا، ورغبة بالإنجاز الحقيقي.
في الخاتمة لا بد من بناء ثقافة واعية جادة، لأنها القادرة على تحويل الإنسان العربي إلى منتجٍ؛ علميًا، وحضاريًا وصناعياً، وبغير ذلك سنتحول إلى كتلة بشرية مستهلكة لحثالة ما ننتجه، وما تقدمه لنا البشرية، دون تمحيص، أو انتقاء إيجابي، وهذا ما لا نرجوه؛ فبلدنا الأردن، ووطننا العربي الكبير يستحق الأفضل.