ضحايا "الأخطاء الطبية" يموتون مرتين بسبب التقاضي الطويل

رسم تعبيري لطبيب يراجع ملف مريض-(أرشيفية)
رسم تعبيري لطبيب يراجع ملف مريض-(أرشيفية)
حنان الكسواني عمان- لم يكن الأطفال لين وجنى وسدين وكنان وجواد آخر ضحايا مسلسل الأخطاء الطبية في بلد يفخر بإقرار قانون المساءلة الطبية العام 2008 بعد سجال وطني دام 17 عاما، وقوانين أردنية مزدحمة تعنى بصحة المواطن وتسعى نحو تنظيم المهنة الموسومة بالإنسانية. "اشتباه بأخطاء طبية"، "إهمال وتقصير طبي"، "مضاعفات جانبية"، "تشخيص خاطئ".. كلها مصطلحات تطلقها جهات رسمية للتغطية على هشاشة المنظومة الصحية التي كشفت عنها جليا وفيات أطفال لم يعودوا قادرين على إيضاح الحقيقة لأن أجسامهم باتت الآن في "عناية التراب" بعد أن فقدت العناية الطبية السليمة.

20 عاما والملف في القضاء

قبل 20 عاما، رزقت الأم بيان (اسم مستعار) بطفلها سيف في أحد المستشفيات الجامعية، حيث ثبت بعد ولادته أنه يعاني من مرض نقص جذور الأمعاء الغليظة بسبب انسداد الأمعاء، ما استدعى إجراء عملية جراحية تتمثل في عمل فتحة مؤقتة لإخراج الغائط إلى حين شفاء الأمعاء الغليظة وإعادة الأمعاء إلى الفتحة الطبيعية. وبعد عام فقط، طلب الطبيب المعالج للطفل سيف إجراء صورة ملونة لأمعائه، تمهيداً لإجراء عملية إعادة الأمعاء إلى الفتحة الطبيعية بعد أن أصبح الطفل في صحة جيدة، بحسب قوله في القضية، غير أن الطبيبة المقيمة في قسم الأشعة في المستشفى وهي تستعد لعملية التصوير، قامت بثقب أمعاء الطفل وتسربت المادة الملونة إلى تجويف البطن، فحدث التهاب في الغلاف البروتيني في منطقة البطن أدى في النتيجة إلى وفاة الطفل سيف. وما بين قبول الطعون التمييزية الثلاثة ونقض القرار المطعون فيه، وإعادة أوراق الدعوى الذي صدر العام الماضي، ما تزال القضية منظورة أمام القضاء منذ تسجيلها في محكمة بداية جزاء شمال عمان العام 2001.

جراح خاص وليس طبيباً

وإذا كانت الطفلة لين أبو حطب التي توفيت الأسبوع الماضي بسبب "تشخيص خاطئ" ولم يتمكن 5 أطباء من تشخيص حالتها المرضية في أكبر المستشفيات، فإن الرضيع كنان كان ضحية لمبضع استشاري لجراحة الكلى والمسالك البولية للأطفال في أحد المستشفيات الخاصة. فمنذ لحظة إبلاغ والدة الطفل كنان بارتقاء روحه إلى بارئها قبل عامين وهي تبكي عليه بحرقة، قائلة لـ"الغد": "طفلي الآن تحت التراب لكن الحسرة في قلبي على فراقه حية إلى الأبد... والنار لا تكوي إلا أهله". وقضية الطفل كنان الذي نزع طبيب في مستشفى خاص كليته السليمة "لأسباب طبية"، بالإضافة إلى الكلية الثانية التي كانت متضررة، تدور قضيته حول "شبهة أخطاء طبية". وقبل انتقال كنان إلى جوار ربه، وهو لم يكمل السنتين من عمره (20 شهرا)، كان يعيش على أجهزة الكلى الاصطناعية لمدة 11 ساعة متواصلة يوميا، حسبما بينت والدته، فيما سعى ذوو الرضيع، إلى ملاحقة طبيب بتهمة "ارتكاب خطأ طبي"، حيث كانوا يجهلون ماذا حدث داخل غرفة العمليات في المستشفى الخاص، بحسب والدته التي تساءلت: هل العطوة العشائرية تمكنت من فك لغز وفاته؟ لكن قرار المدعي العام، الذي نظر في الشكوى المقدمة بحق الطبيب، اعتبر في تكييفه القانوني، أن ما جرى هو "التسبب بعاهة دائمة" وهي من الأمور المشمولة بالعفو العام.

لجان ومسار طويل

أما في قضية الطفلة لين فقد دان تقرير لجنة التحقيق الداخلية في مستشفى البشير الأسبوع الماضي خمسة أطباء يعملون في المستشفى، بتهمة "التقصير" في تشخيص حالة الطفلة، وذلك عندما أخطأ الأطباء في تشخيص حالتها بعد مراجعتها لليوم الأول والثاني (2 و3 أيلول/ سبتمبر الحالي)، عندما عادت الطفلة إلى منزلها من دون تقدير حالة الخطورة. وفي العام الماضي (زمن جائحة كورونا)، كذلك تم تحويل ملف الطفلة سيرين الى المدعي العام، وأحيل 12 شخصا من الكوادر الطبية الى القضاء، بعد ان توفيت في مستشفى البشير نتيجة انفجار الزائدة الدودية وهي تنتظر سرير الشفاء في قسم الإسعاف والطوارئ، وبسبب تأخير باتخاذ قرار إجراء عملية لها لإنقاذ حياتها. وأما الأم الثلاثينية أم محمد، التي تحمل الجنسية السورية، فلم تلجأ الى القضاء او حتى الى وسائل التواصل الاجتماعي لتتحدث عن فلذة كبدها جواد (9 أعوام)، الذي كان ضحية "اشتباه بخطأ طبي"، بعد أن دخل ماراثون خمسة مستشفيات حكومية وخاصة لإنقاذ حياته، عقب خضوعه لعملية استئصال اللوزتين، في أحد المستشفيات الخاصة، وبسبب طول أمد التقاضي، وبسبب تردي الأوضاع المالية وكلف الرسوم ووكلاء الدفاع، تقول لـ"الغد": "فوضت أمري الى الله". وكانت أم محمد هربت وأسرتها من براثن الحرب في بلادها قبل 10 أعوام بحثا عن مفردات الأمان، لينتهي أجل ابنها في عمان قبل عامين بسبب "نقص تروية في الدماغ والتهاب رئوي حاد"، حسب تقرير التبليغ الرسمي للوفاة، في حين أكد أطباء في مستشفيات محايدة وجود "شبهة خطأ طبي بسبب جرعة زائدة من التخدير، وتراكم الدم في رئتيه بكميات كبيرة". وتحت وطأة الصدمة لم يتقدم ذوو الطفلين جنى وجواد السوري بأي شكوى للنقابة أو حتى الى القضاء، إلا أن حادثة الطفلة لين دفعت بوالدة جنى التي توفيت بسبب انفجار الزائدة الدودية أيضا الشهر الماضي في مستشفى الأميرة رحمة، إلى التوجه للقضاء ورفع دعوى على المستشفى والأطباء. ويشير الدستور الطبي وواجبات الطبيب وآداب المهنة/ المادة 33، إلى أنه "عند عدم الاتفاق مع احد الزملاء في طريقة العلاج، يجب التقليل من ردة الفعل أمام المريض الى الحد الأدنى، إلا في حالات الخطأ الطبي الجسيم، فيحق له تقديم شكوى خطية إلى مجلس النقابة".

قوانين مزدحمة.. والموت واحد

عالميا، يتوفى 5 أشخاص كل دقيقة بسبب خطأ طبي، رغم التطوير الكبير الذي حصل مؤخرا في المجال الطبي حول العالم، بحسب قول منظمة الصحة العالمية التي نشرت تقريرها الأخير بعنوان "صحة المريض". وجاء ذلك في خطوة من المنظمة الأممية، حتى تلفت انتباه العالم الى موضوع الأخطاء الطبية في معالجة المرضى، التي ترتبط بالتشخيص الخاطئ والوصفات الطبية والأدوية غير المناسبة، أو عمليات البتر الخاطئة أو توابعها، وجراحات الرأس والمخ التي يتم إجراؤها في الجانب الخاطئ من الرأس. وإلى جانب ما ذكرته "الصحة العالمية"، هناك أسباب أخرى لها علاقة بالتشخيص الخاطئ، والاهمال والتقصير، ومضاعفات جانبية لا تصنف تحت بند الأخطاء الطبية. وثمة قوانين مزدحمة في الأردن تعنى بصحة المريض وتنظيم المهنة، لكن قانون المسؤولية الطبية والصحية لسنة 2018 حدد تعريف الخطأ الطبي بأنه: " أي فعل أو ترك أو إهمال يرتكبه مقدم الخدمة ولا يتفق مع القواعد المهنية السائدة ضمن بيئة العمل المتاحة وينجم عنه ضرر". أما قانون نقابة الاطباء الاردنية وتعديلاته، فركز على وجوبية إخطار المجلس قبل الشروع بالتحقيق في أي شكوى، بناء على المادة (73)، والتي تنص على: "يشكل الوزير لجنة فنية أو أكثر برئاسة من يسميه الوزير وعضوية أربعة أطباء (...)". كما ركز القانون النقابي على أن تتولى اللجنة تقديم الخبرة الفنية بناء على طلب النيابة العامة أو المحاكم أو النقابة أو الوزارة فيما يتعلق بالأخطاء الطبية المنسوبة للأطباء. وسط ذلك، طرح نقيب الأطباء الأسبق الدكتور أحمد العرموطي جملة من التساؤلات لخص من خلالها الخلل الذي يؤدي الى أخطاء طبية في المستشفيات الحكومية بقوله: "هل قامت الكوادر الطبية والتمريضية بالإجراءات الطبية المعتمدة، وهل هي مدربة بشكل جيد وموجودة بأعداد كافية، والاختصاصيون الفرعيون هل هم متواجدون؟ وهل أقسام الطوارئ مجهزة بشكل كامل من حيث عدد الأسرة وأجهزة التشخيص الشعاعية؟".اضافة اعلان