عندما أغضب للعربيّة

موضوع اللّغة العربيّة عندي لا هزلَ فيه. ولطالما أغضبت من أهل الفكر والأدب للتّساهل في استعمالها، أو لعدم اكتراثها (أهل عندي مؤنّثة كسائر الجموع) أن تتهيّأ لها بما تستحقّه لغةٌ قوميّةٌ من احترامٍ وتوقير، فما بالك إذا كانت مادّة الإبداع وأداته؟ وأزيد على ذلك أنّ العربيّة لدى أهلِ الهُويّة (وهو مصطلحٌ وضعتُه ليشير إلى أولئك الذين واللواتي يؤدلجون الهُويّة) تحظى عند هؤلاء بالتَّقديس لأنها لغة القرآن الكريم. فكلما دقّ الكوز بالجرّة (أقصد كوز السّياسة بجرّة المصلحة) سمعنا العويل على الهويّة واللّغة نظريّاً، بينما نراها في الواقع العمليّ معلّقةً على مسلخ الجهل والتّكاسل والتّغريب. وأقول التّغريب (وأقصد الغربة لا الغرب) نظراً للهجمة التكنولوجيّة الجديدة المعولمة على حياة العرب التي سلّلت الإنجليزيّة إلى لسان الشّبيبة فاعوجّ وهجر، وتهادت لغةٌ أخرى، بل لغاتٌ، أعنفُها حضوراً المحكيّة. وأيّ تصفّحٍ سريعٍ لمواقع التّفاعل الاجتماعيّ على الإنترنت سيُرينا إلى أين بلغ قارب العربيّة في هذا البحر المهول من المؤثرات والتّداعيات التي لا تؤكّد القول بأيّ "قدسيّةٍ" عمليّةٍ للّغة عند أهلها، ولهذا حديثٌ آخر.اضافة اعلان
وإذا كان للمؤثّرات مجالٌ آخر للحديث، فإني هنا في معرضِ غضبي الشّخصيّ –مثل أساتذتي تماماً الذين سيكلّفنا خطأ معهم أو أمامهم، ولو كان يسيراً، راحة بالنا لقاء ما ارتكبناه من جرحٍ لكرامة العربيّة. فعملي ككاتبةٍ باللّغة، وكباحثةٍ فيها، ناهيك عن تدريسها والتّدريب عليها، يجعلني –شِئتُ أم أبَيْت– شديدة التنبّه لمزاجها وإيقاعها، متمعنة فيما أسمع وأقرأ وأنا أحمل في رأسي ذاك الجهاز الثّقيل المرهق لرصد الأخطاء بأنواعها. وقد ساعدني عملي في التّدريس وفي التّحرير طويلاً على سرعةِ التبيُّنِ والملاحظة، التي يتبعهما عادةً أن أغضبَ، وأن أُغضِب.
ولطالما عجبتُ لرئيس دولةٍ أو صاحب قرار يقرأ خطاباً في ورقةٍ ثمّ يُنشئ مجزرةً حقيقيّة تجعل من بيانه المكتوب أضحوكة شعبه وشعوبٍ أخرى. فأخطاء اللّغة في الخطاب المجهور تبدو ساطعةً كشمسٍ قبيحةٍ، أو ككائنٍ ديناصوريٍّ يمشي على ساقين من قشّ. فالفكرة مهما سمت، والإبداع مهما علا، والموضوع مهما تقدّس، لا تغفرُ لها عُدَّةٌ هزيلةٌ من أدوات اللغة. وقد أغضبتُ يوماً أديباً عربيّاً كبيراً لأنّه في ملتقىً نقديٍّ (شرشح) اللّغةَ وأهانها من دون أن يرفّ له جفن، وكان جوابُه –لا الاعتذار معاذ الله!!– أن (ماركيز) نفسه كان له من يصحِّحُ نصوصه!!!
فإذا أتينا إلى مَن مُهمّتُه/ها ووظيفته/ها التي يعتاشان منها التّحرير أو التّصحيح اللّغويّ وجدنا أعجبَ الخبر؛ فالإتقان هناك مفردةٌ غريبةٌ ومنسيّة. وليس سرّاً أنّ الصّحافة؛ مكتوبةً ومسموعةً ومرئيّةً، تحفلُ أكثر من أيّ وسَطٍ إنسانيٍّ آخر بالضّعف اللّغويّ والأخطاء "المميتة" (على ما كان يسمّيها لنا أستاذنا العلاّمة الدكتور هاشم ياغي). وإذا ما كنت سأنهي كلامي بوقفةٍ عند الإعلام فللآثار الباهظة التي يحفرُها في الناس وعقول الناس.
ففي الإعلام جرى تذكير المناصب بعد أن كان المنصب يتبعُ جندره (أي جنس صاحبته أو صاحبه): وزير، مدير عام، أمين عام، قاضٍ، نائب، رائد، مقدّم، عريف، مقرّر لجنة (والآن لدينا أول رئيسة تحرير في الأردن وسيطلقون عليها صفة "رئيس تحرير")... إلخ. ولذا فالإعلام لم يُخطِّئ الصّحيح فحسب، بل ألغى التّأنيث إلا عند الاضطرار. ولن أقف على أخطاء الإملاء والنّحو واللغة التي تسرح وتمرح بحريّةٍ مطلقة!!! والتي سببُها البيّنُ الشّخص غير المناسب في المكان المناسب، والضّعف العام بالعربيّة، وانعدام التّدريب والتّطوير المهنيّ...
وعلى ذلك، فليزعل مني من يزعل، ما دمتُ أحملُ سلّمَ العربيّة بالطول وبالعرض، ولا يهمّني بعد ذلك ما دمت أحاسب نفسي أعسر حسابٍ، وأتّخذ لي عدّةً وعتاداً من البحث الدّائم والتّحقّقِ، قبل أن أعلن أنّ اللّغة حقلُ نضالي الدّائم.
دعوني لا أفقد الأمل...