عزيزي الماركسي (2 - 3)

حسني عايش لقد تنبأ كارل ماركس بانهيار الرأسمالية بسبب تناقضاتها الداخلية. ولكن نبوءته هذه فشلت، وانهارت الأنظمة الماركسية نتيجة التناقضات الداخلية في الماركسية أو الشيوعية نفسها، وربما لتحريمها الملكية الخاصة اولاً وأخيراً. لقد عاش ماركس رأسمالية مختلفة عن رأسمالية اليوم وإن ظل يصفها الماركسيون السلفيون بالمتوحشة، وهي فعلاً كذلك، ولكنها تعمل وتنمو، ويمكن تهذيبها، كما في أوروبا وبخاصة في اسكندنافيا. في زمنه لم تكن هناك قيود قانونية على قوى السوق، وعلى ساعات العمل، والتملك، ولا ضرائب تصاعدية على الدخل أو الربح، ولا أيام راحة اسبوعية وسنوية، وعطل وإجازات ونهاية خدمة مدفوعة القيمة، أو لا ضمان اجتماعيا، ولا نقابات ولا حق للعمال في الانتخاب، ولا تعليم إلزاميا مجانيا للجميع، ولذلك صاح ماركس: “يا عمال العالم اتحدوا لأنه ليس لديكم أي شيء تخسرونه سوى قيودكم”. يقال إن من أهم عوامل هذا التطور في الرأسمالية الضغوط الشيوعية عليها، ولكن الرأسمالية استوعبتها وأجهضتها، وبذلك حافظت الشيوعية على الرأسمالية بانتقاداتها. وكان الرأسماليون من الذكاء أنهم صوبوا رأسماليتهم بها. ترى ماذا كان ماركس سيقول لو أنه عاش في فترة الرأسمالية الجديدة؟ هل يقول ما قال أم أنه سيقوله بصورة أخرى؟ وتأتي الصين الشعبية أو الشيوعية لتخلّص الشيوعية من عقدتها القاتلة بالسماح بالتملك والربح، فانطلقت اقتصادياً في بضع عقود وصارت نداً رأسمالياً شيوعياً (بالاسم) مقابلاً للرأسمالية الغربية، لقد تمكنت من توفير عيش كريم لأكثر من ألف وخمسمائة مليون صيني، ومن اغراق العالم بإنتاجها لكل شيء. وها هي تنادد أميركا اقتصادياً وعلمياً وتقنياً وسوف تتفوق قريباً عليها. أما في الاتحاد السوفيتي وكتلته فكان الناس يصطفون طوابير للحصول على البطاقة، كما فتك الفساد بالإدارات الشيوعية لاحتكار الأحزاب الشيوعية للغنائم أو المغانم، وهكذا تداعت وكانه لم تكن أو كأن حجر سنمار سحب من تحتها فانهارت. وللحقيقة وللتاريخ نذكر أن الشيوعيين في فترة المد الشيوعي تعرضوا للاضطهاد في معظم البلدان غير الشيوعية وكانوا صادقين ومخلصين لأحزابهم ونظريتهم وكانوا يطربون كلما تمكن حزب شيوعي في العالم من امتلاك السلطة، وكما يطرب الإسلاميون والإسلامويون الآن كلما تمكنت حركة إسلامية في العالم من امتلاك السلطة. لا يعني هذا الامتناع عن نقد الرأسمالية المتوحشة اليوم فنقدها واجب، وقد يأتي يوم يكون مصيرها فيه مثل مصير الشيوعية والعبودية والإقطاع كما يقول المفكر ريتشارد د. وولف في كاونتر نبش في شرح رأسمالية القرن (21) (الغد في 29/8/2021): “ لا تمثل أنظمة السوق والربح في الرأسمالية شيئاً مطلقاً وفوق تاريخي من الكفاءة القصوى أو المثلى. فهي مثل الأنظمة الاقتصادية السابقة التي وّلدت أيديولوجيات قوية أصرت مثلها على أنها نهايات للتاريخ”. ويضيف: “إن التاريخ لا يتوقف فقد وُلِد كل نظام اقتصادي [جديد] من رحم نظام اقتصادي سابق/ آخر، فقد حل التنظيم الرأسمالي في الانتاج والتوزيع محل نظامي العبودية والاقطاع اللذين سبقاه، فقد تطورتا ثم توقفتا عن الوجود في مرحلة ما في التاريخ”. ربما يحل الاقتصاد الآلي (بالروبوتات) محل الاقتصاد الحالي ويوفر لجميع البشر سلعا وخدمات متشابهة وكافية وهم قاعدون أو يلعبون. يقول وزير خارجية السويد الأسبق كارل بيلد “ لقد فشل كل نظام رفض الرأسمالية باسم الماركسية وليس من قبيل المصادفة او نتيجة سوء فهم عقائدي مؤسف من جانب أتباع ماركس، فمن خلال إلغاء الملكية الخاصة وترسيخ سيطرة الدولة على الاقتصاد لا يحرم المجتمع من ريادة الاعمال اللازمة لدفعه إلى الأمام فحسب، بل يترتب على هذا إلغاء الحرية ذاتها” (الغد في 29/5/2018). لقد ضاعت أعمار كثير منهم ومنا ونحن وإياهم نعمل من أجل إقامة النظام الماركسي في بلدانهم وبلداننا، ولذلك نجد كثيراً منهم ومنا يبكون على الماضي (السوفيتي) ويحلمون باسترجاعه كما يحلم السلفيون المسلمون تماماً باسترجاع عصر الراشدين وما هم بقادرين. وأخيراً، لكن كل هذا وذاك لا يلغي عظمة ماركس في علم الاجتماع، فهو إلى اليوم لا يزال يُدرس ويُدّرس في الجامعات في الغرب والشرق. وأخيراً اعلم يا عزيزي أن الجامع المشترك الأعظم في العالم للنهضة والتقدم اليوم يتكون من الحرية (حرية التعبير) والديمقراطية (بالتداول السلمي الدوري للسلطة) والعلمانية (بفصل الدين عن السياسة كي لا يتدنس وفصل السياسة عن الدين كي لا تتقدس (وبحماية الحرية الدينية)، والمواطنة (المستوعبة لا الملغية للهويات الفرعية)، والعلوم، والمعرفة (التكنولوجيا) وحقوق الإنسان فاشتغل وانشغل بها أو بواحد/ة منها تسعد عندما تنجح، لأن الماضي لن يعود ولا يستعاد. المقال السابق للكاتب  أعزائي الثلاثة (3-1)اضافة اعلان