الزلزال الكبير

إلى هذا الوقت، تبدو الخطوات التي اتخذتها الحكومة في ملف (فضيحة التبغ) تسير في الاتجاه الصحيح، ولو على أقل تقدير في البيان الحكومي الذي منح المواطنين جرعة أولية من المكاشفة والمعلومات وأن المعلومات المتاحة ما تزال أقل من المطلوب، الى جانب سرعة الاستجابة في عمليات المداهمة التي جرت بعد وعود رئيس الحكومة للنواب الذين أثاروا القضية تحت القبة بفترة قصيرة، ومع هذا لم تأخذ الاحتياطات الاحترازية في مثل هذا النوع من القضايا التي تتطلب نوعا من الرقابة على حركة المشتبه بهم، وعلى كل الأحوال، فإن المعركة الحقيقية في هذا الشأن لم تبدأ بعد، والاختبار الحقيقي لصلابة الحكومة الجديدة ومدى مسكها للولاية العامة بدأ منذ هذه اللحظة.اضافة اعلان
المجتمع الأردني ينظر اليوم الى هذه التداعيات الخطيرة بعين الصدمة والحيرة، فإذا كان شخص واحد قادرا على أن يكبد الخزينة مبلغ 155 مليون دينار، كما تشير بعض الوثائق الرسمية المسربة والمخفي أعظم، فكيف دوخت الحكومات المجتمع الأردني بكل طبقاته وفئاته برفع أسعار الخبز من أجل بضع عشرات من الملايين وكيف تعيش الدولة منذ أعوام كل هذا الإرباك لسد عجز الموازنة العامة سواء بدبلوماسية المساعدات الخارجية التي يقال عنها ما يقال أو القروض أو بالأشكال المختلفة من الضرائب والرسوم، بمعنى أن أسئلة الفساد الكبرى وأسئلة الولاية العامة للحكومة وأسئلة نفاذ القانون على الجميع، جميعها تقع في دائرة واحدة هي الكفاءة العامة للدولة التي تهشمت بشكل غير مسبوق وشارك في هذا الإضعاف كل السلطات.
خطورة ما حدث، علاوة على الحسابات القانونية والمالية، يصل الى شعور الناس وإدراكهم الكرامة، فقضايا الفساد من هذا النوع ترجع الناس الى المربع الأول، بمعنى أن من يمسك القانون والقوة عاجز عن حماية الصالح العام وعاجز عن حماية حقوقهم؛ فمن أبسط مفاهيم الكرامة توفير ظروف عيش ملائمة للبشر، ما يجعل الظروف التي تلجأ فيها الدولة الى إحداث تغيير في معادلات العيش السائدة سواء برفع الأسعار أو الضرائب أو عجز النظام الاقتصادي عن توفير العمل الكريم،  ظروفا تمس في المعادلة التقليدية للكرامة، فما بالك حينما تكتشف القواعد الاجتماعية أنها الحلقة الأضعف، بل يطلب منها أن تضحي وأن تدفع وتشقى، وأن توفر الأمان لصالح حفنة من الفاسدين لا يمكن رؤيتهم بالعين المجردة.
وسط البيئة السياسية والإدارية الرخوة التي شهدتها الدولة منذ سنوات، نمت شبكات من المصالح تشبه التنظيم المفتوح الذي يدير مصالحه على حساب الدولة والمجتمع، وهذا التنظيم له قواعده ومعاييره غير المعلنة لكنها معروفة وإحدى أدواته الفاعلة تعطيل القانون، وحماية مصالحه بأشكال الفساد والتلاعب والتزييف وبيع الأوهام كافة، هذا التنظيم المفترض يقود حملات مبرمجة ويخوض حروبا ويحصن دفاعاته داخل المؤسسة الرسمية وخارجها، وللأسف يبدو أن بيئة الإعلام الرخوة أيضا توفر له ملاذات، وتمارس أحيانا رأس الحربة في بعض هجماته.
المسألة التي لا تقبل التخمين تبدو في أن معركة الفساد وتبييض الصفحات لا يمكن أن تخاض بالتجزئة ولا يمكن أن تأتي بنتائج سياسية واجتماعية إذا بقيت تقوم على الانتقائية، فالفعل الجاد الذي سوف يحرك الوعي العام ويستعيد الثقة بأن الدولة هي الضامنة للنزاهة والعدل، يتمثل في أن يصل الى قناعة الناس أنه لا توجد خطوط حمراء في مكافحة الفاسدين، حتى وإن حرك ذلك زلزالا كبيرا. هناك أسئلة كبيرة ومقلقة يطرحها الشارع الأردني في هذه الأثناء، وهذه فرصة ليست أمام الحكومة وحدها بل أمام الدولة في أكثر ملف حساسية وخطورة، الناس ينتظرون زلزالا كبيرا وأفعالا جديدة وكلاما لم يقل من قبل.