"وثائق بنما" وأزمة القيادة الأخلاقية

تهاني روحي

ربما يكون تناول موضوع "وثائق بنما"، أو "أوراق بنما"، في الأخبار، قد هدأ قليلا، بعد أن أثار ضجة عالمية. إلا أن الفضيحة العالمية حول التهرب الضريبي، من خلال تسريب عدد كبير من الوثائق وصفه المحللون بأنه الأضخم عبر التاريخ، فتحت الباب على مصراعيه أمام عدة تساؤلات، من بينها: كيف يستخدم قادة في العالم، ومشاهير، وأصحاب نفوذ، الملاذات الضريبية الآمنة لإخفاء ثرواتهم؟اضافة اعلان
الآن، بعد أيام من الضجة الهائلة التي أثارتها التسريبات، والضجة الأكبر لردود الأفعال المتباينة عليها حول العالم، والتي أوجدت سيلا من الانتقادات لعدة شخصيات سياسية، نجد أنفسنا نقف موقف الحياد في قلب الأزمة العالمية التي ابتليت بها الإنسانية في الوقت الحاضر، مقرين بوجود افتقار إلى القيادة الأخلاقية في مختلف قطاعات المجتمع الإنساني. وفقدان القيادة الأخلاقية هذا يظهر بوضوح من خلال الكشف المستمر عن التصرفات غير الأخلاقية على جميع مستويات المجتمع، في مختلف أنحاء العالم؛ إذ لم يبق أي مجال من مجالات السعي الإنساني، بدءا بالعائلة وانتهاءً بأعلى درجات السلطة، لم يتأثر من ذلك.
إن نموذج القيادة التي نريد لهؤلاء المتهربين من الضرائب، هو القائم على أساس السعي لخدمة الآخرين. ونريد أن يعلم هؤلاء، وهم يشكلون قدوة للعديد من الشباب، أن متطلبات القيادة الأخلاقية هي روح الخدمة، سواء خدمة الفرد لعائلته، أو لبلده ولأمته. وروح الخدمة هذه لا تنكر بأي شكل من الأشكال الدوافع والمبادرات الفردية، كما أنها لا تعيق الإبداع الفردي، بل إنها تطالب بنموذج للقيادة يعمل على إطلاق القدرات الكامنة لدى الفرد، بينما يضمن خير وسعادة الجميع. هؤلاء الذين يبرزون كقادة، سيدمجون على الأرجح روح الخدمة مع الاندفاع نحو التفوق.
إن حلم الثراء السريع لم تكشفه لنا "وثائق بنما". إنما ما تكشفه لنا هو أننا نريد تحقيق حلم رفع عبء الفقر عن العالم، وهذا يتطلب التزاماً عميقاً بالمبادئ الخلقية، وإعادة ترتيب الأولويات بشكل جذري.
لذلك، فالترقي المادي يجب أن يفهم بالأسلوب الأفضل، وهو أن لا يعتبر هدفاً بحد ذاته، بل أداة للتقدم الاجتماعي والروحي والأخلاقي. فالتغيير لا ينشأ نتيجة اكتساب المهارات التقنية، بقدر ما يعتمد على تطوير صفات ومواقف سلوكية تعزز روح التعاون والأنماط المبتكرة للتفاعلات الإنسانية. وباختصار، فإن الجانبين المادي والروحاني للحياة اليومية متلازمان ويجب أن يُعنى بهما كليهما.
إنّ مقتضيات العدل اللازمة للتّنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة، عميقة واسعة. فالاهتمام بالعدالة، يحمي مهمّة تعريف التقدّم من إغراءات التضحية بمصالح غالبيّة عظمى من الناس، لصالح أقليّات تحظى بما يوفّره لها النفوذ من منافع ومزايا. إذ إن مراعاة العدالة عند وضع القوانين والخطط، تكفل عدم انحراف الموارد المحدودة عن غايتها، بغية تنفيذ مشاريع دخيلة على المجتمع.
كم ستكشف لنا "وثائق بنما" في الأيام والأشهر المقبلة؟ المزيد من عدم قدرة هؤلاء الأثرياء على القناعة والرّضا والانضباط الأخلاقيّ؟ وكم اعتبرت بعض البرلمانات والحكومات أن تلك الوثائق بمثابة ناقوس خطر ينبئ بأزمة الأخلاق التي تعيشها نخبة عالمية، من سياسيين واقتصاديين ومشاهير رياضة، وبنوك عالمية وشركات مالية؟