عمان.. قصة فشل

تصلح العاصمة عمان كنموذج يدرس لمدينة بدأت مسيرتها بالبناء والتنظيم الحديث، ثم تحولت إلى قصة فشل مدوية. وتبعتها على الطريق مدن المملكة الكبرى؛ الزرقاء، وإربد، والكرك، والسلط.اضافة اعلان
يكفي أن تأخذ قطاع النقل العام كعينة دراسة لمقاربة المأساة من كل جوانبها. شهدت السنوات الأخيرة انفجارا في أعداد المركبات التي زادت بمعدلات قياسية، فيما تراجع مستوى النقل العام ليقترب من الحالة في مصر. الساحات التي يفترض أن تكون حدائق خضراء وملاعب، تحولت إلى كراجات للسيارات. عندما فاضت بها قدرة الاحتمال، صار الناس يحتلون بسياراتهم الشوارع والأمكان المزروعة بالأشجار؛ قرب مستشفى الحسين للسرطان على سبيل المثال، تجد العشرات من السيارات محشورة بين الأشجار. وبعد فترة من الوقت، قد تضطر أمانة عمان إلى "إخلاء" تلك المساحة المحدودة من الأشجار، وتحول المكان إلى مصف رسمي للمركبات. وهكذا يسري "النموذج" ذاته على مواقع عديدة في عاصمتنا الفتية.
في الحقيقة، لم تعد عمان مدينة فتية وحيوية كما عرفناها قبل عقد وأكثر. المدينة شاخت في السنوات الأخيرة؛ ترهل مظهرها، تبدو مهمومة بأعباء ثقيلة من أكوام الحديد على طرقاتها، وأطنان الإسمنت التي تحتل أطرافها، وحاويات القمامة.
الانتقال من منطقة لأخرى في عمان، وفي أي ساعة من ساعات الليل والنهار، يحتاج إلى وقت مضاعف. والحصول على موقف قانوني لسيارتك، صار من المستحيلات. المركبات تكاد تدخل إلى بيوت الناس في بعض المناطق المكتظة، والشوارع الضيقة.
أحيانا، يخيل للمرء أنه لم يكن في عمان خلال سنوات مضت جهات مسؤولة عن التنظيم ومنح التراخيص، وأن الناس يبنون كيفما يحلوا لهم. وإلا، بماذا نفسر وجود عشرات "المولات" وصالات الأفراح و"القهاوي" على الشوارع الرئيسة، ووسط الأحياء السكنية المكتظة، بدون مواقف مخصصة لاصطفاف المركبات؟!
واجه الكثيرون مشروع الباص السريع بالتشكيك. وتبنت الحكومات هذه الشكوك، فأوقفت المشروع، ليظل شاهدا على فشل خطط إصلاح قطاع النقل العام. ربما تكون هناك ثغرات فنية في المخططات، لكن كان بالإمكان تصويبها بدل اغتيال الفكرة على هذا النحو المهين.
خلال السنوات الأخيرة أيضا، تم استحداث هيئة مستقلة للنقل العام، تنازعت الصلاحيات مع أمانة عمان. في النتيجة، لا هذه ولا تلك حققتا شيئا لقطاع النقل الذي مضى من سيئ إلى أسوأ. المتغير الوحيد هو أن باصات "الكوستر" تضاعفت، وتزايدت تجاوزاتها وشكاوى الركاب من سلوك سائقيها ومرافقيهم.
لم تقف قصة الفشل عند هذا الحد، بل أضيف إليها تساهل وتهاون مع مخالفات السير؛ صار قطع الإشارة الضوئية حمراء أمرا معتادا، وفي عز أزمة ساعات المساء تهاجم مواكب الأفراح والخريجين الشوارع وتسيطر عليها، وما على المواطنين الغلابى سوى الانتظار إلى أن تنتهي الأفواج من مراسيم احتفالات في عرض الشارع، لتضيف إلى المشهد المتأزم أصلا "لمسة" تدلل على مدى التدهور الأخلاقي والتهاون في تطبيق القانون من قبل الجهات المكلفة بذلك.
عمان اليوم صورة مصغرة للقاهرة، وقريبا ستصبح مثل دلهي؛ تحكمها الفوضى، ويغيب عن شوارعها القانون. ذلك هو الثمن الذي ندفعه لغياب التخطيط، وغياب إرادة الإصلاح في القطاعات الحيوية.

[email protected]