المجتمع.. أولا وأخيرا

خلال مرحلة الربيع العربي الظالم، وفي إحدى الجلسات الخاصة مع دبلوماسي غربي، حضرها عدد قليل جدا، سأل أحدهم: لماذا لا يفسد المسؤول الغربي، أو لماذا يكون الفساد في حدوده الدنيا لديكم، بينما في العالم العربي قلما نجد مسؤولا عربيا لا توجد لديه قضايا فساد.. إلا من رحم ربي؟ كان الدبلوماسي الغربي يستمع باهتمام كبير إلى السؤال المفاجئ من صاحبنا. أخذ وقته الكافي للإجابة، بعدها استعرض الوجوه القليلة الموجودة، ثم أسند ظهره إلى المقعد، وقال بهدوء يحسد عليه: جميع المسؤولين في العالم يتمنون لو أنهم يتصرفون مثل مسؤولي العالم العربي! وتابع بهدوء: لا يوجد مسؤول في العالم لا يتمنى أن يستفيد من السلطة الممنوحة له. جميعهم يتمنون لو يفلتون من الرقابة، وأن يغلقوا الصحف والمؤسسات الإعلامية، أو أن يجيروها لحسابهم، وأن يبنوا أرصدة ضخمة في البنوك، لكن القوانين تمنعهم من ذلك. لم يترك أمامنا وقتا كافيا لنحتج له بأن عالمنا أيضا يشتمل على قوانين عديدة تجرم الفساد والاستفادة من الوظيفة العامة، فتابع يقول: العالم الغربي لديه مؤسسات دستورية تضمن تطبيقا صارما وشفافا للقوانين. بينما يوجد مجتمع حي يراقب المؤسسات الدستورية، ويحرص دائما على أن تسير وفق الهدف الذي تم إنشاؤها لأجله، وألا يخرق مسؤولوها التزاماتهم وتعهداتهم بتغليب المصلحة العامة والشفافية والنزاهة. بعدها ابتسم بهدوء، وقال: ببساطة جميع سياسيي العالم يودون لو أنه لا توجد رقابة مجتمعية عليهم، عندها سيكونون أكثر سوءا من سياسيي العالم العربي. إجابة الدبلوماسي الغربي تختصر الكثير من القول في قوة المجتمع. ثمة بون شاسع بين مجتمع يفكر في الرفاهية وتحقيق التوازن المدني والروحي، وبين مجتمع آخر ما يزال يلهث وراء لقمة العيش بعد أن دمرته السياسات الاقتصادية الوطنية، وأسلمته للفقر والجوع. المسألة هنا ليست تعليقا للتخلف الاجتماعي على مشجب القهر الاقتصادي، ولكنها تأشير على واحدة من الحقائق التي ما تزال الأنظمة والحكومات حول العالم تعتمدها لإبقاء قبضتها قوية وغير متراخية لحكم الشعوب. في العالم الغربي أخذت المجتمعات بالتطور منذ الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، منذ ذلك الحين، حققت مكتسبات كبيرة لم تكن تنوي التخلي عنها، حققتها في جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية والحريات، لذلك فقد عززت من السياسات والإجراءات التي هدفت إلى الحفاظ على تلك المكتسبات، من خلال تشريعات صارمة تحول دون فقدها. في مجتمعات غربية أخرى، أوروبية، انضوت تحت جناح الاتحاد السوفيتي أو حلف وارسو، ساد القمع وهشاشة القانون والدستور لزهاء ثمانية عقود، لكن في اللحظة التي خرجت فيها تلك المجتمعات من تلك العباءة، رأينا كثيرا منها تتقدم خطوات سريعة في السير بطريق الحرية والديمقراطية واشتراطاتهما من الشفافية والنزاهة وحكم القانون. ثمة خلل بنيوي لدينا يمنعنا من أن نكون مدنيين كبقية العالم.اضافة اعلان